لقراءة الجزء الاول
يرتكز نظام تعليم الطب الألماني على تقسيم الدراسة الطبية إلى قسمين: السنتين الأولى في العلوم الطبيعية الأساسية Basic science مختتمة بامتحان الدولة الأول – الفيزيكوم – Physikum، ثم تبدأ سنوات تعليم الطب الإكليني مختتمة بامتحان الدولة الثاني تتوجها سنة التطبيق العملي الأخيرة Pj-Praktisches Jahr. يعتمد التدريس جدًا على نظام الرص والتكديس المعلوماتي بوقت قصير سرعان ما اكتشفت صعوبة التناغم مع إيقاعه السريع منذ الفصل الأول فبذلت قصارى جهدي لأدركه بالمتابعة الدائمة علّي بِطاقاتي المُتهالكة وصرف ذهني وفكري عمّا سواه أدرك شيئًا من تفاصيله، وحتى لا أنشز عن تناغمه، كم احتاج ذلك للصبر والأناة. لم يكن الأمرُ غريبًا حيث أنّ تركيبة الحياة اليومية الألمانية بشكل عام مبنية على "أساسات وقتيّة" تشعر فيها بأن الدقيقة دِعامة أساسية في هذا البُنيان ما إن تُهدر حتى تتوالى أحجار البنيان بالانهيار تَتْرى! ولا أنكر أن أحدًا في خضمّ هذا المسار التعليمي والتطبيقي بضغطه ورتابته لا تُسلب منه حريرية روحه الشرقية فيتحول لتلبية مطالب النظام إلى آلة حديدية لا روحَ فيها.
إلا أن نظام التّعليم بوصف صعوبته هذا لا يقدح بنجاعته، فهو تعليمٌ استكشافيّ أكثر بكثير مما هو استهلاكي، وإبداعي بقدر كونه إدراكي، فيتخلل النظام تعلّم عن طريق المشكلة PBL-Problem Based Learning وتعلّم عن طريق الحالة CBL-Case Based Learning وتعلم عن طريق المحاكاة Simulation وتترصع أيام الأسبوع بالتعليم السريري ابتداءً من السنة الثالثة كخطًى ساعية بدأب لجعل الطالب مصنعًا ناجعًا للقرارات المصيرية وعينًا ثاقبة لتشخيص العلل.
ويتخلل كل فصل من فصول المرحلة الإكلينية حصصًا خاصة لدعم القدرات الأساسية في البحث، كما يشجع الجو الأكاديمي العامّ كله على البحث العلمي، فالمؤسسات ومراكز الأبحاث لها في كل مقام في الجامعة أثر من ندوات وفعاليات لا أنكر فشلي باستغلالها لضيق الوقت، إلا أنه لا يتلاحى اثنان بأن البحث يفتحُ مجالًا واسعًا لحلول المعضلات العلمية وأفقًا رحبًا للبدائل وهو أحد أسباب النجاح في النظام الصحي الألماني.
إنه من أكثر ما حرصت أن ألقي الضوء عليه دائمًا ومناقشة أسبابه هو النجاح المُجتمعي وروح الجماعة الألمانية، ولعلّ أجمل تفسير لذلك كان متشكلًا في فترة "أزمة اللجوء" بلوحات الإعلانات الزاخرة بدعوات حثيثة ودعم دؤوب لطلاب الطب في السنة التطبيقية الأخيرة للعمل مع اللاجئين ومساعدتهم طبيًّا، كما كانت قاعات المحاضرات التعريفة بمنظمات طبية إغاثية كمنظمة أطباء بلا حدود MSF-Médecins sans frontières تعجُّ وتضجُّ بالطلاب، فيتجلى أمامي تأثير ثقافة التطوع في نجاح المجتمع المحلي وإبداعه وإخلاصه.
ولعله من أكثر ما كان يؤذيني في المعاملات في أروقة المستشفى هي بعض الحواجز الثقافية التي يخلقها البعض من المَرضى من الدول الإسلامية ومرافقيهم بالبقاء في معزل عن التواصل الثقافي الحضاري كالصحراء حبيسة رمالها فتُفهم معتقداتنا بشكلٍ خاطئ أو لا تفهم أبدًا، فقد قال لنا أحد المحاضرين مرة: إياكم أن تخبروا أبًا مُسلمًا بأن ابنه المريض بالتليّف الكيسيّ سيحقن بإنزيمات مستخلصة من خنزير (وهو العلاج الوحيد في هذه الحالة)! إلا أنني لا أنكر لطف المجتمع الألماني وحسن تعامله، فالمحيط الألماني هو دائرة داعمة ومنبتٌ خصبٌ لكل بذرة نامية ولكل فسيلة خضراء، فمهما كانت وتيرة انخراطك في المجتمع وتقدمك المهني والتعليمي بطيئة، فبمجرد حفاظك على التقدم والنجاعة ستكون مشمولًا بعين الرضى الألمانية.
ختامًا
الغربة لم تكن يومًا عبارة عن وحدتك العددية وبعدك الفيزيائي عن وطنك وإنما هي صعوبة محاولة انصهارك بعالمِكَ القِيَميّ والتربوي في حشود من عوالم غير المألوف؛ أن تعيش شرقيتك في غربيتهم وإسلامك بين غريبِ مُعتقداتهم وأن تصبح ذوقياتك محلَّ تساؤلاتهم وأن تنسى ديباج كلامك المنمق الذي ما فتئت عاكفًا تهذب تعبيره وتثقّف حرفه لتبدأ ببناء قوالب لغوية جديدة وقواميس أعجمية، فتنتهي بعد سنين بازدواجية في الانطلاقة وثنائية في المنهج وخليط معرفي أسأل الله أن يكونَ مباركًا ومكللًّا بالنجاح يوقّع تحت آخر العقود ببيروقراطية واثقة: والسّهم لولا فِراق القَوسِ لَم يُصِبِ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.