(1) حقاً إنها السياقات
لكي أجيبك عن السؤال الموجود في العنوان دعني أسألك سؤالا آخر: ماذا ستفعل لو فتحت تطبيق السناب شات فوجدت فيديوهات لقطط مرحة أو كوميكس أو فيديوهات ساخرة؟ أعتقد أنك ستظن أن مارك زوكربيرغ قد استحوذ على السناب شات أيضاً، فهذا السياق لا يلائم السناب شات، وإنما يلائم تطبيق الفيسبوك الذي يعج بهذه الأشياء!
السياق المتوقع في تطبيق سناب شات هو سياق شخصي بحت، أنت ستفتح السناب شات لترى ما يفعله أصدقاؤك بالأساس، ستكتشف أن بعضهم في الجامعة يعانون الملل في محاضرة ما، البعض يقضي وقتاً لطيفا على مقهى شعبي في الشارع، ربما تكتشف أن بعض الأوغاد قد سافروا للساحل وتركوك وحيداً في الغابة الأسمنتية، وهكذا..
أما السياق المتوقع في عالم الفيسبوك فهو أكثر تنوعاً وغرائبية، ربما تجد بعضاً من أخبار أصدقائك لكنها ستمثل نقطة في بحر هائل من الأخبار والمعلومات العامة واللقطات المضحكة والميمز والفيديوهات الترويجية وصفحات المشاهير والممثلين والإعلاميين وغيرها.
هذا السياق المختلط المتسع الذي قد يراه البعض ثرياً، قد يفضي للأسف إلى انهيار الفيسبوك كله في النهاية، اختفاؤه بالكامل ليلحق بمن سبقه، تخيل أن الفيسبوك قد نتحدث عنه في المستقبل كما نتحدث اليوم عن ICQ وMIRC وmyspace وغيرها من الشبكات الاجتماعية التي أصبحت جزءاً من الماضي!
ولكن لماذا؟ أليس التنوع جيداً في معظم الأحوال؟ وما علاقة هذا باختفاء الفيسبوك؟..
(2) الفيسبوك وروعة البدايات
اللوجو القديم للفيسبوك
هل تذكر ما الذي جذبك لاستخدام الفيسبوك؟ أنا أذكر أنني سمعت عنه لأول مرة من بعض الأصدقاء المقربين وكان كل ما يتحدثون عنه هو اكتشافهم لوجود أصدقاء الطفولة والدراسة عليه، وإعادة التواصل معهم ومعرفة أخبارهم، وبمجرد تسجيلي في الموقع – تحت ضغط هؤلاء الأصدقاء – بدأت تفاعلات انشطارية متسلسلة تحدث أمام عيني، انتهت بي في نهاية اليوم لأكثر من مائتي صديق كنت أعرفهم بشكل عابر، فإذا بي فجأة أعرف الكثير عن أخبارهم وحياتهم، ففلان تزوج، وفلانة أنجبت، ورفيق المقعد الدراسي صار يدرس الآن بالخارج، وتلك الفتاة التي أعجبت بها في الكلية لم تتزوج بعد! ولكنها مخطوبة! يا لي من بائس، ترى من الملعون الذي اختطف قلبها؟ يبدو لي وجهه مألوفاً، وهكذا ظللت لأيام أتتبع وأعرف أخبار الجميع في نهم لا ينقطع.
لم يمضِ الكثير من الوقت حتى بدأت أتنحنح بدوري، وأشارك الجميع ما أفعله في حياتي، حسنا أنا موجود أنا الآخر، ربما سمنت قليلاً كما تقولون، لا لم أسافر، ما زلت في القاهرة، أعاني من ضغط العمل، والمرور مزدحم، والجو حر خانق، هل تفكرون في الهجرة كما أفكر؟ حسناً هذه صوري على البحر، أنا أستمتع بوقتي مثلكم، شكراً على إعجابكم بصوري، شكراً على تعليقاتكم اللطيفة، يا لي من شخص سعيد ومحبوب!
(3) انهيار السياق
ولكن ماذا بعد؟ ماذا بعد أن أمضيت السنوات في جمع كل وأي صديق أعرفه أو لا أعرفه؟ ماذا بعد أن صار البواب والحلاق والنجار وكاشير السوبر ماركت أصدقائي؟ مع احترامي لكل المهن بالطبع، ولكن ماذا بعد أن جمعت كل هذه الجوقة من الأصدقاء؟ هل أجد نفسي مرتاحاً لنشر أخباري الشخصية بعد ذلك؟ هل أنا أصلاً أحب هذا الفعل؟
موظفو الفيسبوك باتوا يحذرون من ظاهرة قديمة في عالم الميديا، ولكنها حديثة في عالم الديجيتال ميديا، وهي ظاهرة "انهيار السياق" أو context collapse وهو تحول المنصة الإعلامية لسياق آخر يختلف عن السياق الذي أنشئت من أجله، الظاهرة قديمة قدم الإعلام نفسه، فكم من قنوات فضائية مثلاً بدأت بدايات متخصصة في أمور معينة، ثم انتهى بها الحال لتقديم محتوى مخالف، وربما مناقض للسياق الأصلي، بسبب تطور الظروف والأحوال أو ضغط المعلنين أو الجمهور. ربما نتذكر قناة الناس الفضائية المصرية وكيف بدأت بساحة لعرض المواهب وتصوير الأفراح ثم انتهت بشاشة تأخذك للجنة! هناك أمثلة عالمية كذلك كقناة MTV الشهيرة والذي يمثل اسمها اختصاراً لكلمة Music TV ومع ذلك فالقناة توقفت عن بث الموسيقى منذ زمن، بالتحديد منذ أن صار الإنترنت أو اليوتيوب هو المصدر الرئيسي لمشاهدة أحدث الكليبات الغنائية، لم تتوقف القناة عن البث، وإنما استكملت بثها تحت نفس الاسم وبسياق منهار تماماً، سلسلة من البرامج السخيفة التي لا تمت للموسيقى بأي حال من الأحوال، وهو ما أثار حفيظة جمهورها القديم، وأدى لتراجعها الساحق عن مكانتها الأثيرة البراقة!
(4) المال أصل كل الشرور
ولكن لماذا انهار السياق الفيسبوكي؟ الأمر لا يتعلق فقط بأنني أصبحت غير مرتاح لنشر أخباري الشخصية، الموضوع أكبر من ذلك، والسبب الرئيسي فيه يرجع إلى سياسة الفيسبوك نفسه، نعم، فالفيسبوك هو المسؤول الرئيسي عن انهيار سياقه وربما يكون السبب الأول في انتهائه من الوجود قريباً!
الفيسبوك مؤسسة ربحية، تبحث عن المال كي تستمر في التواجد، وهكذا منح الفيسبوك للبراندات والشركات صلاحيات كبيرة للوصول إلى المستخدمين، بمقابل مادي محترم بالطبع! أصبح بإمكان أي منتج لسلعة ما أن يصل إلى جمهوره المستهدف عبر دفع المال للفيسبوك، وفي المقابل يقوم الموقع بإيصال صوته للمستخدم المطلوب دون أن يطلب المستخدم ذلك، أو حتى يتحكم في منعه، وهو ما يطلق عليه sponsored post أو منشور مدعوم.
ترتب على ذلك أن الشركات أصبحت تسعى لنشر محتوى جذاب؛ لأنها لا تريد أن تصل للمستخدم ثم تعرض عليه إعلاناً مملاً أو "رغي" كثيراً لا يهتم المستخدم بقراءته، أصبحت صناعة المحتوى الإعلاني حرفة مطلوبة للغاية وازدهرت مهنة الـcopywriting أو الكتابة الدعائية، وظهرت الحاجة للمبدعين في هذا المجال بكثرة، بعد أن كان هذا النوع من الكتابة يقتصر على الإعلانات التلفزيونية وهي دائرة وظيفية ضيقة بعض الشيء.
بدأت الشركات أيضاً تثمن المحتوى الأصلي، غير الإعلاني non-branded لأنه ينتشر بشكل عضوي organic أو طبيعي أكثر بكثير من المحتوى الإعلاني، فأصبح هناك دعم واضح لصفحات الكوميكس والفيديوهات المضحكة والمحتوى الساخر وكل ما يطلبه المستمعون عموماً.
أشهر صفحات الكوميكس المصرية
(5) الرنين
وهكذا تلاقت ظاهرتان في نفس الوقت، ظاهرة عزوف المستخدمين عن مشاركة أخبارهم الشخصية، وظاهرة هجوم الشركات والبراندات بالمحتوى الجذاب والممتع لجموع المستخدمين، وعندما تتلاقى ظاهرتان قويتان بشكل بناء، أي أن كلتا الظاهرتين تدعمان بعضهما البعض، يحدث ما يسمى بالرنين resonance وهو اتساع متعاظم في التأثير المشترك combined للظاهرتين، اتساع أدى إلى تحول الفيسبوك إلى قناة فضائية كبيرة مليئة بالمنوعات، بدلاً من كونه منصة لتكوين / إدارة الصداقات، وهو السياق الأساسي الذي أنشئ بسببه.
(6) المشكلة الحقيقية
ما هي المشكلة؟ المهم أن الناس موجودون، ويستخدمون الموقع، بصرف النظر عن طريقة استخدامهم له.
المشكلة يا صديقي أن هذا لن يستمر!
يعرف القائمون على الفيسبوك جيداً سر جاذبيته، إنهم يعرفون كيف استطاعوا جذب أكثر من مليار مستخدم يومي لموقعهم، والسر لم يكن بالطبع في الإعلانات، ولا الفيديوهات المرحة، ولا الكوميكس الساخرة، السر كما أوضحناه سابقاً في روعة البدايات، إنه التواصل الاجتماعي: الحاجة الرئيسية التي يجدر بالفيسبوك إشباعها، الحاجة الرئيسية التي إن تحول الفيسبوك عنها فستحل محله منصات أخرى تدريجياً، منصات أكثر قدرة على إشباع هذه الحاجة لدى المستخدمين، لن تنفع الكوميكس والميمز والفاينز في عالم ينهار، هذا ما يدركه أصحاب الفيسبوك جيداً!
كمستخدم عادي، فإنني مع الوقت سأتحول لموقع آخر يمكنني فيه مشاركة أخباري الشخصية، سأدخل على الفيسبوك بالطبع لأنني أريد أن أضحك وأن أعرف آخر الأخبار العامة، ولكن هذا الاهتمام سينزوي مع الوقت، فالمنصة الأخرى تحتاج مني إلى تفاعل أكبر، فصديقي قد علق على منشور لي هناك وأنا أريد أن أرد عليه، وصديقتي قد وضعت صورة متأنقة وأنا أريد أن أجاملها وأبدي إعجابي بها، في التواصل الاجتماعي أجد معنى لحياتي وتعريفاً لنفسي، أشعر أنني موجود ومطلوب ومرغوب لذاتي، ولكن في الفيسبوك أصبحت أشعر أنني أحد الجماهير، فأنا دائماً معجب بفنان أو كوميديان أو صفحة تبث البهجة أو تحفز على الإبداع، ولكنها علاقة لا تشعرني بقيمتي، لا أحد يمتدحني لما أنا عليه، أنا الذي أبدي إعجابي دوماً ولا أحد يعجبه ما أفعله، هذا إن اهتممت بنشر ما أفعله أصلاً، وكيف يروق للناس ما أفعله وهي أمور عادية، وصور شخصية لحياتي غير المميزة، بينما هناك آلاف البوستات اليومية التي تتحدث عن المشاهير والأبطال والفنانين، الذين يفعلون الأعاجيب، ويطوفون العالم، ويلتقطون أروع الصور في أكثر الأماكن تميزاً!
(7) المنصة الجديدة وروعة البدايات
في المنصة الجديدة أنا استعدت تعريفي لذاتي، هل تذكر الأخت الفاضلة التي ترتدي الحجاب على الفيسبوك وتخلعه على الإنستغرام؟ سأروي فضولك تجاهها الآن فاستعد، إنها ترتاح أكثر هناك، تعرف أنها محاطة بشبكة اجتماعية أكثر أمناً، ليس فيها الكثير من الصخب والجمهور المتطفل والضوضاء الناجمة عن الإعلانات والمحتوى غير الشخصي، تعرف أنها في واحة للتعارف الحقيقي والتواصل الاجتماعي الهادئ غير المعبأ بأغراض رأسمالية واضحة!
لقد كانت تتمنى أن تنشر صورتها هذه منذ اللحظة الأولى التي التقطتها، ولكن الفيسبوك كان خانقاً، بمجرد الدخول في العالم الجديد الهادئ، ودعوته الودودة لها كي تعبر عن نفسها وتنشر صورها الشخصية وتشارك مع أصدقائها حياتها اللطيفة الشيقة، بدأت تستجيب على الفور، هذا مكان جديد مشبع بالروح الأصلية للتواصل، يتميز بروعة البدايات التي كان يحظى بها الفيسبوك فيما مضى، قبل أن تلوثه الرأسمالية العفنة والجشع الزوكربيرغي!
ولكن هل ستنتهي المنصة الجديدة كما انتهت الأولى؟! ربما بعد اكتمال عملية جمع المستخدمين التي تحدث في البداية يجد القائمون على الموقع أنفسهم في حاجة ملحّة للاستفادة المادية منهم، ويتكرر السيناريو الفيسبوكي مرة أخرى، ربما يكتشفون أن للمال بريقاً لا يمكن مقاومته، والذي يدفع الثمن دائماً هو المستخدم الذي ينخدع في البداية بشعارات التواصل الاجتماعي البراقة، ثم يكتشف أنه مع الوقت صار مجرد سلعة / زبون / عميل!
(8) منصات جديدة
أشهر منصات التواصل الاجتماعي حالياً
في حالة الإنستغرام بالتحديد – والذي استولى عليه مارك زوكربيرغ في العام 2012 مقابل مليار دولار – فإن الوضع قد يبدو مبشراً؛ لأن القائمين عليه الآن هم نفس القائمين على الفيسبوك، وانهيار سياق الإنستغرام – إن حدث – فسيعني أن القائمين على الفيسبوك يهوون تحطيم السياقات، ولا يتعلمون من أخطائهم أبداً، وهو أمر ربما يكون مستبعداً!
بسبب ذلك ستجد أن القائمين على إنستغرام يحرصون بشدة على إبقائه منصة شخصية بالأساس، وستجد أن الإنستغرام حالياً به مساحات أكبر من الحميمية المترتبة على ارتياح مستخدميه لمشاركة صورهم (الفتاة التي خلعت الحجاب نموذجاً!)
يمكنك أن تقول إن شراء الإنستغرام كان حلاً لإنقاذ مؤسسة الفيسبوك من انهيار السياق الذي قد يودي بالمنصة الرئيسية، وربما نجد المؤسسة قد تغير اسمها في المستقبل لمؤسسة "الإنستغرام – فيسبوك سابقاً" بعد أن يذوى وهج الفيسبوك للأبد وهو أمر بات متوقعاً في الوقت الحالي.
على الجانب الآخر حاول مارك زوكربرغ عدة مرات شراء منصة السناب شات، التي ما زالت تتمتع بقدر كبير من الخصوصية الشخصية، وقد كانت آخر المحاولات الرسمية في 2013 وبصفقة مقدارها ثلاثة مليارات من الدولارات رفضها الرئيس التنفيذي لشركة سناب المالكة لسناب شات "إيڤان شبيجل" والذي انضم إلى نادي القليلين الذين قالوا "لا" لمارك زوكربيرغ، ولكن هل يسكت مارك؟
اتجه مارك مباشرة إلى اتخاذ عدة إجراءات لإنقاذ طفله الأول "الفيسبوك" حتى لو على حساب أخلاقيات البيزنس، قام بنسخ خصائص عديدة من السناب شات، وألصقها بتطبيق الفيسبوك، أخذ مفهوم القصة story الموجود في سنابشات ووضعه كما هو في تطبيق الفيسبوك، كما بدأ في نقل مميزات أخرى عديدة بطريقة الكوبي – بيست، يسعى مارك الآن بضراوة لقتل السناب شات بعد أن فشل في الاستيلاء عليه؛ لأنه يعلم أنه يمثل التهديد الحقيقي، والمنصة البديلة التي سيتجه لها سكان الفيسبوك بعد انهيار سياقه الوشيك، هذا إن فشل إنستغرامه في التفافهم.
(9) أين نحن من هذا العالم؟
الفيسبوك في الثورة المصرية
في منطقتنا العربية يبدو هذا الصراع غريباً بعض الشيء، فانهيار السياق الذي يتحدثون عنه بالخارج يحتاج لإعادة تعريف حين نراه بعيون ثقافتنا، السياق الشخصي الذي تميزت به وسائل التواصل الاجتماعي في الخارج يعتبر وُلد ميتاً أصلاً في منطقتنا العربية، فنحن بالأصل ضد ثقافة نشر الأخبار والمعلومات الشخصية، نتميز بالكتمان العام غير المبرر، ونخشى الحسد والعين وكلام الناس، ونعمل حساباً لآراء الآخرين وأحكامهم ونظرتنا في عيونهم قبل كل شيء!
لم يكن الفيسبوك العربي بوجه عام منصة لنشر الأخبار الشخصية إلا للقليلين جداً من المستخدمين الذي ينتمون للثقافة الغربية بشكل أو بآخر، مجرد مشاركة فتاة عادية لصورها وملابسها وحفلاتها يعتبر في منطقتنا شيئاً نادراً ويترتب عليه أن تصير هذه الفتاة مشهورة أو فاشيونيستا أو بابليك فيجر، ربما هي لا تفعل ما يزيد عما تفعله أي فتاة أميركية أو أوروبية عبر نفس التطبيق، لكنها في منطقتنا أعجوبة نادرة قد تستقطب آلاف المتابعين، نحن لا نشارك حياتنا وأنتِ تفعلين هذا بكل أريحية، يا لك من مثيرة للاهتمام!
وهكذا بدأ الفيسبوك في منطقتنا بسياق عمومي أصلاً، الناس أصبحت تشارك أفكاراً عامة، كثير منها أفكار دينية، تحث أصدقاءها على الفضيلة، أو تذكرهم بالآخرة والعمل الصالح، وأحاديث الأنبياء ومأثوراتهم، محتوى غير أصلي ودائماً منقول، وبتطور الأمر بدأ الناس يشاركون آراءهم الشخصية في الحياة العامة أيضاً، ثم تطور الأمر لحركات تنادي بالإصلاح ثم الثورة ثم قامت في مصر على سبيل المثال ثورة مكتملة الأركان عبر الفيسبوك!
في وطني العزيز مصر لم يكن الفيسبوك أبداً متعلقاً بالأمور الشخصية، الاستخدام الغالب عليه كان دائماً عاماً شمولياً، يشكل الوعي الجمعي ويحركه، ويكون رأياً عاماً ويطوره، تماماً كما استخدمنا المنصات السابقة كالمدونات والمنتديات والإنترنت بوجه عام!
لقد كنا أمام رنين resonance من نوع آخر، ظاهرة عدم ارتياحنا لمشاركة أخبارنا الشخصية عموماً بسبب معتقداتنا وثقافتنا الانغلاقية، وظاهرة أننا نحيا في مجتمعات تئن بالمشكلات المركبة المستعصية على الحل، تلاقت الظاهرتان لتصنعا ثقباً أسود عملاقاً من المحتوى العام، يمتص ويبتلع كل ما هو شخصي وإنساني ومتفرد، لصالح كل ما يتعلق بالشأن العام والوضع العام وحال الدولة والمجتمع وجموع الناس، ضاع الفرد وانسحق تماماً واختفى من الوجود تحت وطأة الجماهير!
اللافت للنظر أنه حتى بعد انسداد الأفق السياسي في مصر في النصف الثاني من عام 2013، تحول مستخدمو الفيسبوك المصريون للحديث في أمور عامة أخرى، لم ينشغلوا بالحديث عن أمورهم الشخصية كما هو متوقع، أصبح الحديث عن مشكلات عامة أخرى، أو أمور مضحكة أو مسلية تحدث في المجتمع، بدأت ظاهرة التريندات trends تأخذ أشكالاً متفردة مثل الحديث عن بوست ساخر منتشر، أو شاعر عامية ركيك يتغزل في "خدود" حبيبته، أو مقولة أدبية يتم تحميلها معاني ساخرة فتنتشر كالنار في الهشيم كمقولة "اخلق معي حديثاً فربما لست بخير"، أو مقولة تحفيزية تتم إعادة استخدامها في السخرية كمقولة "بينما أنت تلهو، هناك من يصنع المجد" وإسقاطها على راقصة أو فتاة ليل باعتبارها "تصنع المجد" بدورها، وهكذا لم يتجه المصريون للجانب الشخصي من الفيسبوك حتى بعد انهيار العمل السياسي بالكامل، بل بشكل سحري أوجدوا بديلاً للتابوه السياسي، وخاضوا في مناطق جديدة متفردة لم يتطرق إليها أحد من قبل.
فرغم وجود ظاهرة التريندات هذه بالخارج فإنها غالباً ما تكون متعلقة بأحداث حقيقية تحدث على الأرض، كإطلاق ألبوم غنائي جديد لمطرب معين، أو انتخابات الرئاسة الأميركية مثلاً وصعود ترامب وتصريحاته العجيبة، لكن التريندات في مصر تأخذ في أحيان كثيرة شكل الرأي العام الموازي في المجتمع الموازي، فتشعر أنك أمام عائلة كبيرة واحدة تتحدث في موضوع شيق لا يفهمه سوى أفرادها، يكفي ألا تكون منضماً إلى أسرة الفيسبوك في مصر كي لا تدرك أبداً ما الذي تعنيه كلمة "ربما لست بخير" وكلمة "بينما أنت تلهو" وغيرها من المقولات التي باتت تشكل لغة مشتركة لعائلة الفيسبوك المصري، وليس لها أدنى علاقة بالواقع على الأرض الذي يبدو أنه قد صار طارداً ومحفزاً للانغماس في العوالم الموازية الأكثر لطفاً وثراء.
(10) المصير
بعد انهيار السياقات تتحول المواقع والتطبيقات إلى مرتع لنوع معين من المستخدمين، وأتحدث بالطبع عن المواقع التي لم تحترم تاريخها وتغلق نفسها بنفسها بعد انتفاء الغرض الرئيسي منها. بعض مواقع التواصل الاجتماعي القديمة تحولت إلى ما يشبه الـDating Service وبعضها تطور إلى منظومة دعارة كاملة، فهذا هو الجمهور الذي تبقى بعد رحيل الكتلة الحرجة الأساسية من الجماهير. في حالة انهيار سياق الفيسبوك بالكامل ورحيل المستخدمين عنه إلى تطبيقات أخرى أكثر خصوصية، أعتقد أن الجمهور الذي سيتبقى هو جمهور منطقتنا العربية، وبالأخص الجمهور المصري الفريد، لأننا بالأساس لم ولا ولن نستخدم الفيسبوك في سياقه الأساسي مطلقاً، لقد كنا منذ البداية واضحين مع أنفسنا ومع التطبيق، سنظل جمهوراً وفياً له طالما سمح لنا بالتواصل بالطريقة العمومية التي نعشقها، ومهما حثّنا على مشاركة معلوماتنا الشخصية وسألنا بإلحاح "كيف مضى يومك؟" وغيره من الأسئلة السخيفة، فسنظل نكتب ونشارك عن الآخرين لا عن أنفسنا، ونتحدث عن الشأن العام لا عن أمورنا الشخصية، ونضع صوراً للمشاهير والفنانين أو للأطفال والورود أو للقرآن والإنجيل، نضع صورة لأي شيء وكل شيء.. إلا صورتنا الحقيقية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.