قصتي مع الكائن الغريب.. الرجل

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/11 الساعة 09:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/11 الساعة 16:14 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - iStock

في زيارتي الأخيرة لليمن قبل عام ونصف، التقيت بصديقتي الروائية التي تعمل كمعيدة في الجامعة، وذهبنا إلى أحد المطاعم الشعبية في صنعاء، دخلت المطعم وكالمعتاد كنت أبحث بنظراتي عن المكان الخاص بالنساء، والذي غالباً ما يكون محجوباً عن الرؤية بستارة تعلق على المدخل، ووقع نظري على مكان لا تدخله الشمس وعلى مدخله ستارة، فعلمت أنه المكان الخاص بالنساء والعائلات، وأنا في طريقي للذهاب إليه سحبتني صديقتي من يدي، وقالت: أين ستذهبين؟ سنجلس هنا في الخارج، قلت لها: "ولكن هذا المكان خاص بالرجال فقط وليس للنساء والعائلات"، أجابت: "لا عليك لقد تعودنا أنا وصديقاتي أن نجلس في الخارج هنا، في هذا المكان الخاص بالرجال، في النور.. تحت الشمس".

عدت بذكرياتي إلى أيام الطفولة عندما كنت أرى الرجل الغريب، أي الذي لا تربطني به صلة قرابة، وكأنه كائن مخيف. لماذا مخيف؟ لأنني أرى النساء يهرعن خوفاً داخل غرفهن إذا جاء أحد الضيوف للمنزل، ولا يمكن للنساء الخروج من الغرف إلا بعد رحيل الرجال، وتسمع رجل البيت وهو ينادي زوجته -بدون ذكر اسمها- يا أم فلان أحضري القهوة والشاي.

أثناء دراستي في المدرسة لم يكن لدينا زملاء شباب، فقط فتيات، عالم الشباب عالم غريب بالنسبة لنا، يا ترى بماذا يفكر الشباب؟ وعن ماذا يتحدثون؟ هل المواضيع التي يتحدثون عنها تشبه مواضيعنا أم أنها مختلفة؟ وظل هذا السؤال يحيرني، خاصة بعد أن انقطعت علاقتنا حتى بشباب العائلة بمجرد بلوغنا سن المراهقة، واقتصرت أحاديثنا على التحية الرسمية في أيام الأعياد رغم أننا كنا في طفولتنا أعز الأصدقاء.

بعد تخرجي في المدرسة التحقت بمعهد لتعلم اللغة الإنكليزية، وهنا كانت المرة الأولى التي يكون لدي زملاء شباب في الصف. وغالباً ينطبق الحال على جميع من كانوا معي؛ حيث لا يوجد اختلاط إلا في المدارس الخاصة ذات التعليم الأجنبي.

أخيراً أصبحت أنا والكائن الغريب -الرجل- في صف دراسي واحد. ردود الفعل كانت مختلفة بين أن يصاب الشاب بحالة ذهول وهو يرى الفتيات معه في نفس الصف وكأنه يرى أعجوبة، ويحاول لفت انتباههن طوال الوقت، أو أن يصبح عدائياً لا يريد الاقتراب منهن، بالنسبة لي كنت عدائية؛ حيث لم أستوعب فكرة الحديث بتلقائية مع زميلي الشاب، فالفتاة المحترمة المؤدبة لا تتحدث مع الشباب.. هكذا تقول الأعراف والتقاليد، لذلك كنت أتجاهل كل من يتحدث معي حتى لو كان يسأل عن شيء يخص الدراسة، والتفت للجهة الأخرى، وكأنني لا أراه، وهكذا أثبت بأنني الفتاة المهذبة.

بعد أن أتممت دراستي في المعهد، سافرت للمغرب مع أهلي وفي أول سنة جامعية كنت متوترة لا أدري ما هي الطريقة المناسبة للتعامل مع الرجل، كان دائماً لدي خوف وتردد، صحيح أنه أصبح أقل بكثير من السابق، ولكن هذا التوتر الذي يلازمني في كل مرة أتعامل فيها مع جنس الرجال لم ينته بعد، برجوعي لليمن وإتمام دراستي هناك التحقت بجامعة للفتيات فقط، وكانت جامعة متشددة تركتها بعد أشهر؛ حيث لم أستطع أن أنسجم مع الأفكار المتطرفة الموجودة فيها.

انتقلت لجامعة أخرى مختلطة وأصبحت ضمن شلة فتيات يتجنبن الحديث مع الشباب إلا إذا كان هناك طالب يحتاج لنقل الدروس من ملازمنا، وكنا ننظر باستغراب للتجمعات المختلطة وكان أغلبهم من كلية الطب؛ حيث يوجد في هذه الكلية الكثير من أصحاب الجنسيات العربية، مما جعلهم أكثر انفتاحاً وتلقائية في التعامل بين الجنسين.

في جلساتنا العائلية مع الأخوال والأعمام كنت أفضل الحديث مع الرجال؛ حيث إن مواضيعهم كانت أكثر تشويقاً بالنسبة لي، يتحدثون عن الشعر.. عن السياسة.. عن التاريخ، ولم أكن أجد أي متعة في الحديث مع النساء اللواتي غالباً ما يتحدثن عن أطفالهن ومشاكل المدرسة أو كل واحدة منهن تستعرض قدرتها على تخفيض السعر عند شرائها لمقتنيات المنزل. وقتها لم يكن الحديث عن السياسة يشغل النساء كما هو الحال الآن، بالإضافة لقلة احتكاكي بطبقة النساء العاملات والأكثر انفتاحاً، خاصة عند سماعي للأحاديث التي تنتقد الناشطات في حقوق المرأة وتصفهن "بالنساء المحرضات على الانفتاح والداعيات للخروج عن العادات والتقاليد".

عالم النساء منفصل عن عالم الرجال، حتى في الاجتماعات العائلية تجد الرجال يجلسون في مكان والنساء يذهبن للجلوس في مكان آخر، ويكون الاجتماع فقط على سفرة الطعام هذا في أغلب البيوت اليمنية، ولن أقول كلها حتى لا أقع في خطأ التعميم.

ولكن بشكل عام المجتمع منقسم إلى قسمين، حتى الزوج وزوجته كل منهما لديه أصدقاؤه، يقوم الزوج بزيارتهم وقت العصر في المجلس ولا يلتقي بزوجته وأبنائه إلا وقت الغداء وبعد المجلس في المساء، وربما يكون هناك يوم واحد في الأسبوع يخرج فيه مع زوجته وأبنائه ويتخلى عن أصدقائه… لا نعرف مجتمع الرجال ولا يعرفون مجتمعنا.

بعد تخرجي في الجامعة ذهبت للبنان مع عائلتي وكان ما زال خوفي من الرجال موجوداً، وعندما التحقت بالجامعة لدراسة الماجستير كنت أستغرب جداً إذا رأيت شاباً وفتاة يتحدثان عن مواضيع مشتركة، شعرت بأنه مجتمع واحد وليس اثنين.

مع مرور السنين ذهبت عقدة الكائن المخيف -الرجل- وأصبحت أتعامل معه بتلقائية وبدون خوف. عند زيارتي لليمن بعد الثورات لاحظت حدوث تغيرات خلال الثلاث سنوات الأخيرة، حدث تغيير كبير في العلاقة بين الشابات والشباب كان له عدة أسباب، بحسب رأيي، أولها اختلاط الشباب بالفتيات في ساحات الاعتصام، فأصبح هناك مواضيع مشتركة يتحدثون عنها، وهذا الاختلاط كسر حاجز الخوف من الآخر، بالإضافة لافتتاح مقاهٍ شبابية ووجود أنشطة شبابية ثقافية وفنية لم تكن موجودة بهذه الكثرة في السابق، وجدت جيلاً مختلفاً من الطالبات والطلاب، لا يوجد بينهم الكائن المخيف الذي كنت أراه في الماضي.

خرجت من ذكرياتي على صوت صديقتي وهي تقول "هند هند، بماذا سرحت؟" تأملت أشعة الشمس المنعكسة على الطاولة التي نجلس عليها. وقلت: "لا شيء، فقط أتأمل نور الشمس".

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هند الإرياني
ناشطة يمنية
تحميل المزيد