ماذا تتمنى أن تصبح حين تكبر؟! كان الجواب المثالي في التسعينات وأوائل الألفيات "طبيب، طيار، مهندس". أما اليوم الجواب المثالي: "مصور، كاتب، يوتيوبر"، ولأن الشيء بالشيء يذكر، من المستحيل أن يتحول المجتمع كله إلى كتاب، مصورين، ويوتيوبرز.
لندرك جيداً أن هذه المنصات ليست منصات شهرة ولا محطات نجومية، هي منصات أفكار وتبادل خبرات لا أكثر ولا أقل، تحويلها إلى ضروب التفاهة الموجودة على الساحة اليوم تحت مسمى الترفيه لن يغيّر من دورها الأساسي في بناء الأمم من خلال الأفكار المكتوبة أو الموجودة على هيئة صور، أو المقدمة في اليوتيوب.
لذلك إن لم تكن لديك أفكار جديدة وخارج الصندوق ومعنى خارج الصندوق ليست خارج الوطن العربي بل خارج الجهل الحاصل، أو أفكار قديمة تقدمها بشكل جديد ومؤثر، فتوقف عن ممارسة قالب الحضارة المزعوم، وسيطر على هوس الفن والشهرة.
يقول القائل: إننا نحتمي بالفن، تسأله: وكيف ذاك؟! يجيبك: لأنه الطريقة الإنسانية التي تجعل الحياة أكثر احتمالاً، فالفن هو الطريقة الصحيحة لجعل الروح تنمو وتزدهر، في الحقيقة أنت تهرب من واقع متهالك إلى خيال متماسك ينسج خيوطه الفن.
إن قائل هذا القول أشبه بمن يدس السم في العسل، لو تركته يطنب في توضيح مقولته لوجدته يملك لساناً ينطق بجميل القول، ولكنك بالتأمل ستراه قبيح المعنى. على أية حال أحد فوارق الإنسان عن الحيوان هو أنه يحب السمعة والمكانة الاجتماعية.
على هذه المنصات يدور الحديث دائماً عن القدوة والحضارة، القدوة يصنفها الكاتب "علي الوردي" إلى قدوة واطئة وقدوة عالية، الواطئة خير وأبقى، فهي تحفز الإنسان على العمل وتبعث فيه التفاؤل.
أما القدوة العالية فلا يستطيع تناولها إلا القليلون، فهي تكون في نظر الناس أضحوكة يتقافزون حولها ويتنادرون عليها، وهذا هو حال تلك المنصات قدوات عالية، إن صح القول بانها قدوات، ليست شيئاً بإمكان الجميع أن يكونه.
ابحث عن ذاتك بعيداً عن تلك المنصات، ولا تجعل منها أهدافاً تتمنى بلوغها، فرؤية المرء لذاته هي أهم جزء في منظومة النجاح الفردي والبناء الأممي
ثم يرددون أن هذه المنصات هي من ستُحدث نقلة حضارية، وأهم مَن يظن أن من شأنها أن تصنع نقلة حضارية، فالحضارة كما يصفها المفكر مالك بن نبي: "لا يمكن استيرادها من بلد إلى آخر، رغم استيراد كل منتجاتها ومصنوعاتها؛ لأن الحضارة إبداع وليس تقليداً أو استسلاماً وتبعية كما يظن الذين يكتفون باستيراد الأشياء التي أنتجتها حضارات أخرى، فبعض القيم لا تُباع ولا تشترى ولا تكون في حوزة مَن يتمتع بها كهبة تهبها السماء كما يهب الخلد للأرواح الطاهرة".
الشعور بالأزمة والقلق على المصير هو ما نحتاج إليه؛ لأن القلق هو المحرك النفسي، هو ثمرة العقيدة الصحيحة والنتيجة الطبيعية للوعي الحضاري.
القلق على المصير هو الوعي بالتحدي الذي يجب أن يرفع تجاه واقع التخلف. الحضارات تشكلت ضمن ظروف هيمنت عليها فكرة الخلاص، وسيطرت على وعي الإنسان حتى غيّرت اتجاهه، وهذه الفكرة لا تشكّل صياغتها ولا تصبح حماسة إلا أمام خطر مرعب.
ابحث عن ذاتك بعيداً عن تلك المنصات، ولا تجعل منها أهدافاً تتمنى بلوغها. إن رؤية المرء لذاته هي أهم جزء في منظومة النجاح الفردي والبناء الأممي على حد سواء، ولكن ماذا عندما يرى المرء ذاته فناناً، والنجاح بالنسبة إليه ليس إلا الشهرة بين آحاد أفراد أمته التي لا تعدو تلك الجماهير القابعة خلف مسرح فنه؟! نعم الفكر هو من يبني الأمم، ولكن اسأل ذاتك ما تقدمه هل يمكن تصنيفه تصنيفاً فكرياً؟ ثم تأمل عدد مَن يتابعك واسأل ذاتك هل ما أقدمه ينفع الأمة أم كالزبد يذهب جفاء؟! زبد ويذهب جفاء، إذن لا تعيرني اهتماماً دعني أفعل ما شئت! أعيرك اهتماماً؛ لأن الأفكار المسمومة والقاتلة لا تموت مع الأجساد، بل تظل حية وقاتلة ولا تقهرها إلا أفكار مثلها تعاكسها، وتكون نِداً لها في حلبة الصراع الفكري الذي له الكلمة الأخيرة في النهاية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.