لماذا تكتب المرأة؟ لو سألنا بعض الكاتبات مثل رضوى عاشور وأناييس نن وسيلفيا بلاث وفروغ فرخزاد، وغيرهن، قبل أن يخطفهن الموت فتغيب الإجابة عن هذا السؤال المؤرق، هل تكتب المرأة من أجل النضال ضدّ العقلية الذكورية التي قهرتها واستعبدتها منذ قرون، أو أنّ المرأة تكتب من أجل أن تلد ذاتها من جديد؟
كيف تكتب المرأة؟ هل تكتب بعاطفتها وهي المتهمة دوماً بعاطفتها ومشاعرها التي لا تتحكم فيها؟ هل الكتابة للمرأة مجرّد قلب أحمر كبير رسمته الكلمات والحروف المتناثرة هنا وهناك، قلب أحمر مجرّد من المعنى ولا ينضح سوى بالعاطفة، لا غير؟
لو ظلت حنّا أرنت على قيد الحياة كانت ستنزعج كثيراً من تهمة العاطفية ونزع العقلانية عن المرأة، وهي التي غيّرت مسارها وفلسفتها من التفكير في الحبّ الفعل الأنثوي إلى التفكير في الشر الفعل الذكوريّ، لقد ناضلت حنّا أرنت من خلال الفلسفة ضد النازية الجديدة "معاداة السامية" و"الاستعمار"، أفكار عقلانية فلسفية خاضتها فيلسوفة بكلّ شجاعة واقتدار، بل وتركت أعمالها حاضرةً ومتداولةً إلى اليوم.
الأديبة حنّا أرندت
تقول سيلفيا بلاث عن فعل الكتابة: "أنا أكتب؛ لأنّ هناك صوتاً في داخلي لن يسكت".. إنّها ليست مجرّد ثرثرة النساء، بل إنّ الأمر يتجاوز هذا الأمر كليّاً، إنّها لا تروّض الصوت الذي يسيطر عليها إلا بالكتابة، ربّما كان الصوت هو السجن الكبير الذي تقبع فيه سيلفيا بلاث ولا تتحرر منه إلا من خلال إقدامها على فعل الكتابة، فهي بالنسبة إليها فرصة الخلاص الأخير لها، وربّما كان الأمر يتعلق بتحقيق الذات خارج الجسد، إنّ هذا الصوت الذي لم يصمت أبداً لم تقهره بلاث إلا بالكتابة، ولم تتحرر من سلطته نسبياً إلا بنصوصها الكثيرة.
الشاعرة الإنكليزية سيلفيا بلاث
الشاعرة سلفيا بلاث هل يمكن أن نعتبر المرأة الكاتبة امرأة واحدة أو أنّها بمثابة سلسلة طويلة من نساء مختلفات ومتشابهات، متناقضات وثوريات، يحتدم صراعهن الداخلي، فلا ينتهي إلا في نصّ المرأة الكاتبة، فهي المرآة العاكسة، أي الكاتبة لوجوههن المشوشة ومشاعرهن المحتدمة، إنّها تعيد كتابتهن من جديد، بصوت جديد لا يخضع إلى الرؤى المجتمعية والتقاليد والعادات القديمة، في هذا الصدد أتذكر جواب الروائية الجزائرية فضيلة الفاروق عن سؤال صحفي فتقول، أعتقد أنّ الحياة لن تنجح بتصورات الذكور فقط، ولا بإرادتهم، ولا بمخططاتهم فقط.
ما زالت المرأة العربية تعاني من سيطرة الذكور، حتى من طرف الكتّاب العرب الذين لم يواجهوا اتهامات مخلة بالشرف وهم
يكتبون عن جسد المرأة ومغامراتهم مع الجنس والتابوهات الأخرى، في حين توجه هذه الاتهامات إلى المرأة الكاتبة بسهولة بالغة؛ لتبحث عن أجوبة هل هي تكتب نفسها أو تكتب مجتمعها، إنّهم مازالوا يعانون عجزاً رهيباً في فهم أنّ المرأة الكاتبة تتحرر من عوالم الخوف والرهبة؛ ليتحول صوتها وقلمها إلى عوالم رحبة وشاسعة تحرر الخوف الداخلي الكامن في أعماق النساء؛ لتصبح في لحظة ما صوتهن المختطف منهن.
إنّ وظيفة الكتابة كانت لسنوات طويلة حكراً على الرجال في عرف الذهنية الذكورية. وإقدام المرأة على فعل الكتابة يعتبر بمثابة خلخلة لإحدى وظائف الرجل في المجتمع الذكوري. ولم يحدث هذا عند العرب فقط، بل عاشته النساء في أوروبا منذ قرون، لعلنا نستحضر في تجربة الروائية الفرنسية "جورج ساند" خطورة الإقدام على المغامرة في مجتمع منظم سلفاً، ساند التي تخلت عن أصولها الأرستقراطية الفرنسية من أجل الكتابة، أو هي الحرية كما عاشتها من خلال طريقة حياتها المختلفة في القرن التاسع عشر، ربّما نقرأ في جملتها الشهيرة معاناتها السريّة "في يوم ما سيفهمني العالم أكثر، لكن غير مهم إن لم يأتِ هذا اليوم، سأكون قد فتحت الطريق لامرأة أخرى".
لقد فتحت ساند الطريق لنساء أخريات ليكتبن ويعبرن عن مشاعرهن ويكشفن عوالمهن الحميمة بدرجة أقل من الخوف والفزع، كما خضن في بعض المحرمات والمسكوت عنه بجرأة بالغة، لم تعد المرأة كائناً منعزلاً ليس له من سلاح سوى سحره الجنسي على حدّ عبارة "جول لافورغ"، لم يعد الجسد مطمع الرجال، بل أصبح القلم فاضحاً لكلّ هذه الأطماع.
يمكننا القول: إنّ تحرير قلم المرأة هو في الأصل تحريرها من أغلالها، فالكتابة بالنسبة للمرأة هي لحظة مواجهة مع إرث طويل من الاستعباد والاضطهاد والتهم المحضرة سابقاً، إنّها تحاول من خلال إقدامها على الكتابة أن تعيد تشكيل نفسها من جديد بعيداً في عالم حرّ، فالبياض الذي تملأه المرأة هو قدر جديد تصنعه بإرادتها.
إنّ الكتابة لحظة خلق متبادل، تخلق المرأة الكلمات على البياض؛ لتخلق هي من جديد حرّة خفيفة متزنة واثقة بكيان مستقل تماماً، إنها تلد الكلمات لتولد من جديد؛ لتنطلق واضحة نحو همومها ومعاركها لعل تنتصر على خوفها وجزعها وترسم الابتسامة على شفتيها وشفاه الكثير من النساء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.