"مأساتنا أنه لا يعلو صوت فوق صوت النفاق" – نجيب محفوظ.
عندما يتحوّل كثير من الناس إلى مجرد صلصال يتشكّل حسب المصلحة المطلوبة، وعندما ينتشر التلوّن والتنازل عن القناعات والمبادئ والأفكار، عندما يُهان الشخص ويتم التقليل منه ويُذل لا لشيءٍ إلا لأن "سلوكه المصلحجي" يُجبره على ذلك.
هذا الشعور الناتج عن الطمع، وعدم الرضا، وضعف الشخصية، والإحساس بالنقص، وعدم التنشئة والتربية الصحيحة منذ الصغر، دائماً حال لسانه يقول للشخص الذي يُنافق:
"ما المشكلة في أن تُهان أو تُنتهَك كرامتك في سبيل تحقيق مصلحتك؟! ما المشكلة في أن تتملَّق وتُجامِل وتقول كلاماً ليس صحيحاً في سبيل تحقيق مصلحتك؟!
إنها المصلحة وعليك الوصول إليها وتحقيقها بأي سبيل، دَعْك من الذين يُحدثونك عن احترام الذات وعزَّة النفس وإعطاء النفس قدرها الذي تستحقه، فهذه نفسك أنت، وكل هؤلاء مغيَّبون، وما المشكلة في أن يحتقرك هؤلاء أو غيرهم؟! المهم في النهاية هو المصلحة والمنفعة، يا صديقي ما دُمتَ تُنافِق إذاً أنت موجود ومستمر".
فالمنافق هو مَن يتميز بحُسن وعذوبة الكلام لإقناعك بأنه صادق وقادر على القيام بأي شيء تطلبه منه وتكلفه به مقابل مصلحته ومقابل تلميعه لشخصك، وذكرك ليل نهار في كل مكانٍ وزمان، فهو متلوّنٌ في العلاقات، غير واضح المبادئ والمواقف والأفكار، فهو بمائة وجه ويتقن كل دور يقوم به ويتحول إلى الشخصية التي تتطلبها المصلحة ويجيد أي دور يقوم به في سبيل الوصول إلى الهدف الذي يعيش من أجله وهو المصلحة.
المؤسف أن النفاق أصبح لغة العصر والشعار الذي يرفعه كثيرٌ من الناس، أصبح النفاق يسري في العروق كسريان الدم، نفاق في جميع أرجاء المجتمع، نفاق في العمل والمؤسسات والسلطات، نفاق في الصحف والمجلات، نفاق في وسائل الإعلام، نفاق في وسائل التواصل، نفاق حتى في المنازل، في كل مكان تجد هذا الوباء اللعين.
يجهل الشخص المنافق أنه بالفضيلة والعلم واحترام الذات وإنزالها المنزلة التي كرّم الله بها جميع البشر يستطيع كسب كل الناس، وكما يقول الرافعي رحمه الله: "إن شر النفاق ما دخلته أسباب الفضيلة، وشر المنافقين قومٌ لم يستطيعوا أن يكونوا فضلاء بالحق فصاروا فضلاء بشيءٍ جعلوه يشبه الحق".
وهذه الظاهرة للأسف الشديد مع انتشارها تؤدي إلى ضياع القيم والأخلاق، وتشتت المجتمع، وانعدام الثقة بين الناس، وتدمير العلاقات الاجتماعية وضياع الحقوق، وانتشار الجبن والخوف والضعف والاستكانة، وغياب عزة النفس واحترام الذات عن الأجيال؛ لأنهم لم يجدوها فيمَن سبقهم، ولا ننسَ أثرها السيئ على نفس الشخص الذي يتم نفاقه وتمجيده، فكما قال الحسن البصري، رحمه الله: "تولى الحجاج العراق وهو عاقلٌ كيّس، فما زال الناس يمدحونه حتى أصبح أحمقَ طائشاً سفيهاً"، وكم أوصل هؤلاء الحمقى أناساً وزعماء من كثرة النفاق والتمجيد إلى مكانة النبوة ومرحلة الألوهية، وما أدل على ذلك مما قاله أحدهم للمعز لدين الله الفاطمي:
ما شِئْت لا ما شاءت الأقدار ** فاحكم فأنت الواحد القهار
وخطوة مهمة جداً في درب التغيير المنشود للمجتمع هي التخلّص من هذا المرض من خلال إصلاحات جذرية، تبدأ من الأسرة والمنزل، والتوعية من خلال المدارس والمراكز والمساجد والكنائس ووسائل الإعلام والتواصل.
وتخيّل يا صديقي شكل وحال المجتمع بدون نفاق وبدون منافقين، عندما سأل رجلٌ صاحبَه: "لماذا هواءُ الفجرِ نقيّ؟" فأجاب: "لأنه خالٍ من أنفاس المنافقين".
* تم نشر هذه المقالة على موقع MTA Post.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.