لم يعد الاستيقاظ على نبأ موت أحدهم، بالخبر الذي قد يفسد صباح المواطن العربي أو يعكر صفوه، لا سيما وقد أصبح بيننا وبين أخبار الموت مودة خاصة وعِشرة عُمْر، حتى اعتدنا جميعاً -وبدرجات متفاوتة- صنع قهوتنا الصباحية ونحن نستمع لصوت المذيعة وهي تحصي أعداد الموتى في سوريا والعراق واليمن وليبيا بالمفرق والجملة دون أن يرفّ لنا رمش… وكما يقول المثل الشعبي: "أسوأ عادة أن يكون لك عادة"، واعتيادُنا وتعايشُنا السلمي مع أخبار الموت هما من أسوأ العادات التي أضيفت إلى قائمة العادات العربية السيئة.
ووسط زحمة أخبار الموت اليومية والاعتيادية تلك، يأتي نبأ وفاة ممثل مشهور أو كاتب أو روائي مرموق كالصفعة التي تنبهنا بأن لا هدنة مع الموت، الأمر الذي ينعكس جلياً على جدران صفحاتنا الفيسبوكية، التي ترشق ببوستات النعي والحزن على فراق مثل هذه القامات التي كان لها الأثر الأكبر، سواء في المسيرة الفنية أو الأدبية العربية، فضلاً عن كمّ المشاركات لاقتباسات ومقولات أدبية للروائي أو الكاتب الذي أغلق باب الدنيا ورحل عنها.
حتى جاء رحيل الكاتب والروائي المصري العملاق مكاوي سعيد مؤخراً كالرصاصة التي صدح أزيزها في الأروقة الأدبية مدوياً، ليتبعه خبر وفاة الكاتب والروائي المصري الكبير أحمد خالد توفيق قبل أيام، ليكون بمثابة كاتم الصوت الذي ترك الوسط الأدبي في حالة صمتٍ مطبق.
لكنّ صفحاتنا الفيسبوكية وتغريداتنا وهاشتاغاتنا كانت الناجي الوحيد من حالة الصمت تلك، حيث صدحت التغريدات بعبارات الحزن والأسى على فراق مثل هذين القامتين، وتحولت صفحاتنا الفيسبوكية إلى أعداد أدبية لمجلات إلكترونية من خلال التغني بأسماء رواياتهم وقصصهم، ومشاركة أشهر الأسطر التي خطّوها يوماً بأناملهم، وراح الناس يتناقشون فيما بينهم بالقيمة الأدبية والمعاني العميقة لأعمال مكاوي سعيد وأحمد خالد توفيق ولأثرها البالغ في ردم الفجوة الأدبية التي شهدتها الساحة الأدبية العربية في فترةٍ ما، حتى تشعر لوهلة بأنك تجلس في منتدى أدبي أو مقهى ثقافي، أو كأن سوق عكاظ بُعث من جديد، لكن هذه المرة على طريقة "السوشيال ميديا"!
صدقِّوني، إنّ الواحد منا يشعر بالنشوة لمثل هذا الحال، يشعر وكأن الروح ردَّت إليه وهو يرى الشباب والصبايا يهتمون بالأدب والرواية ويتبادلون فيما بينهم الآراء الأدبية ويقيِّمون نصاً ما، يشعر وكأنه في حلم جميل لا يرغب في نهايته… لكن، للأسف الشديد، أحلامنا -نحن الشباب العرب- لا تكتمل ودائماً ما تنتهي في الوقت غير المناسب، سواء بشكلٍ إرادي أو بفعل فاعل، لكنّ المهم في الأمر أنها تبقى مبتورة مشلولة، لا؛ بل وغالباً ما تتحول إلى كابوس مزعج.
فبعد انقضاء يومٍ أو يومين على خبر رحيل كتّابنا عنا، نعود إلى سابق عهدنا و"تعود حليمة إلى عادتها القديمة" وكأنّ شيئاً لم يكن، وكأنّ من كان يشارك النصوص الأدبية والاقتباسات ذات المعاني والقيم العميقة تلك هم كائنات فضائية غزت الأرض ونحن نيام وكتبت ما كتبت وشاركت ما شاركت ونحن نغط في نومنا و"يا غافل إلك الله"… فتعود لتصفُّح صفحتك الفيسبوكية لتراها تعج بالتعليقات العفنة التي لا تمت إلى موضوع مقال ما أو صورة بأي صلة، لا من قريب ولا من بعيد..
وأذكر هنا أنه استوقفني منذ يومين مقال عن الأندلس، وبعد أن انتهيت من قراءته، قررت تصفُّح التعليقات ويا ليتني ما فعلت! فأحدهم يكتب تعليقاً محملاً بعبارات القَسم والتوكيد بأنه "ربح جهاز آيفون"، وما عليك إلا الضغط على الرابط المرفق حتى يضحك لك الحظ، وأحدهم يكيل الشتائم المقززة المغمسة بوحل الطائفية دون أي مناسبة؛ فقط لأنّ شهيته الطائفية دفعته لمثل هذا الفعل؛ حتى يرضي ذاته المصابة بمرض "الحماقة الشديدة الالتهاب"!
تكمل تصفُّحك بعدها لتصادفك صورة إحداهنّ تضع قطة مسكينة لا حول لها ولا قوة فوق صدرها، معلِّقة عليها "اكتب رقم 1 وستختفي القطة"، لتفاجأ بعدها بجيش عرمرم من المفسبكين الأشاوس يعلقون برقم 1، حتى تصل التعليقات على الصورة إلى آلاف مؤلفة وأطنان من الإعجابات الخلبية.
ولا ينتهي الحال هنا، فتشاهد مثلاً صورة لمقارنة رقمية بين ميسي ورونالدو لإنجازاتهما في موسمٍ ما، وتحتها ملحمة كلامية حامية الوطيس بين جيشي ميسي ورونالدو، لا تخلو من السباب على كل ما هو مقدس وغير مقدس، لتشعر وكأنّ أحدهم هو ابن عم ميسي الربعي، بينما الآخر اعتاد شراء دخانه الوطني من الدكان أسفل عمارته والذي كان يمتلكه والد رونالدو، ومن المعيب بحقه ألا يدافع عن ابن جاره، كيف لا ومن شيمنا نحن العرب حفظ حق الجار و"الجار قبل الدار" كما تعلمون!
نعم يا أصدقاء، ببالغ الحزن والأسى أنعي إليكم الحال الذي وصلنا إليه، الواقع المعتم الذي نعيش فيه، اللامبالاة تجاه كل شيء وكأننا نعيش داخل علبة كرتونية نأكل ونشرب وننام، وأعزكم الله! فحالنا تلك التي شاهدتها وشهدتم عليها جميعاً عند موت مكاوي سعيد وأحمد خالد توفيق هي ليست إلا "صحوة الموت"، فكما تعلمون الكثير ممن هم في حالة غيبوبة تامة يصحون فجأة دون سابق إنذار ويعودون أصحّاء فترة وجيزة، ثمّ يودعون الحياة بعدها على عجل… نعم، هذا حالنا بكل دقة، لا نصحو إلا عند موت كاتبٍ أو روائيٍ ما، لنعود بعدها إلى ما كنا عليه من ضياع وهدر لطاقاتنا الشبابية وقدراتنا ورمي لأوقاتنا التي نقضيها في عوالم "السوشيال ميديا" في حاوية القمامة!
وبكل صدق، لم أكتب ما كتبت، إلا من إيماني العميق بنا نحن الشباب العرب، وبقدرتنا على إعمار هذه الأرض وإتمام المهمة التي خُلقنا من أجلها… وتحويل واقعنا العربي المحزن إلى واقع أقل مرارة.
رحم الله مكاوي سعيد وأحمد خالد توفيق…
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.