أنزف دماً وأختنقُ وكأنه طلق الولادة .. تجربتي مع سرطان الرحم

عدد القراءات
1,052
عربي بوست
تم النشر: 2018/04/05 الساعة 07:43 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/23 الساعة 15:53 بتوقيت غرينتش
Young woman in bed suffering from cancer

كم أكره جملة: "بعد صراع طويل مع المرض" كأن الجميع يخاف أن يلفظ كلمة سرطان من دون أن تحضر شياطين الأوجاع التي تنتهي بالاستسلام.

مَن يطهر الأفواه الغاضبة؛ لأنها تعاند قدرها وتقاوم وتنهزم؛ لأنها فقدت إيمانها بأن الحياة تستحق المجابهة مهما كانت الأثمان التي تدفَع من أعصاب ودموع وتلوٍّ من الأوجاع؟ الآن أقف وأصرخ: انتصرت أنا ملكة!

منذ اليوم الأول الذي عرفت أنني مصابة بسرطان في عنق الرحم أُصبت بالذهول، لم أصدّق، لم أكن أشعر بأنني مريضة، رفضت أن أرضخ، قلت لنفسي: إنه من غير الممكن أن يصيبني هذا المرض، إنه يصيب الآخرين فقط.

لم أقبل بأن أفقد الحق في الحلم بالغد.

قررت أن مَن سيخضع للعلاج هو البديل منّي.

هل فكرنا مرة في أن مَن يعاني مِن مرض السرطان يشعر بالخجل أمام الأصحاء، وكأنه فقد حقه في تحدي الحياة؟ يقرأ في عيونهم شفقة لا يحاولون إخفاءها، حتى إن إحدى الزميلات قربت كرسياً من طاولتي في المكتب وسألتني: بماذا تشعرين؟ وكأنها تسألني كيف أمضيت يوم عطلتي في الجبل وأنا "صاغ سليم"؟ قلت بعصبية: لا أحب أن أتحدث عن الموضوع. حملت حقيبتي وتركتها في حيرتها.

لم أكن يومذاك في حالة قبول للواقع، ثرتُ، أبعدت عني شبح الجلسات التي أخضع فيها لـ"الراديو تيرابي"، وأين أذهب؟ الواقع يطبق عليّ ويفرض عليَّ بروتوكولاً جديداً يحدد تحركاتي وتصرفاتي وضوابط جسدية لم أستمع إليها من قبل.

لا أعرف كيف يجب أن أتعامل مع الموضوع؟ غريبة هي الحياة، كدت أقف يوماً في الكافيتيريا لأقول للجميع: انظروا إلى هذه الحلقات السود التي تكحل عينيّ، إنها من مزايا السرطان الذي احتلّ جزءاً من بيت رحمي. رأيتهم يضحكون: إنك تمزحين. أسمعهم يضحكون، تراجعت عن الفكرة، وتابعت مزاحي مع الموجودين، تفاديت المجابهة، وهم تابعوا أحاديثهم من دون أن يلمحوا إلى مرضي، أنا خجلة وغاضبة في الوقت نفسه.

"الراديوتيرابي"

كل يوم أذهب إلى مستشفى أوتيل ديو، أنطوان يرافقني دائماً، نصل إلى الطبقة الثالثة تحت الأرض، أنزل من السيارة، أحمل زجاجة مياه مثلجة تزيدني شجاعةً وتمنع الجفاف عن فمي، أدخل إلى بطن المبنى.

هنا مركز "الراديوتيرابي" مُنى تستقبلني، ومن ثَم يصل أنطوان بعدما يركن سيارته في الموقف، كل شيء منظم حتى الاشتراك المخفض لمن يعالج في الداخل، شيء مضحك، بطاقة ممغنطة تفسح لنا المجال للدخول والخروج بسعر زهيد، هذا السيناريو يتكرر خمس مرات في الأسبوع.

المرة الأولى وقفت أمام الباب، شعرت بأنني لا أستطيع أن أتنفس، قلت لنفسي إنه عليّ أن أتنفس مثلما تتعلم الحبلى في الأفلام السينمائية عندما تشعر بالطلق الأول. أتنفس بصعوبة.. أخاف.. أرتجف.. أختنق تحت الأرض. لماذا دائماً تكون العيادات الخاصة تحت الأرض؟ ألا تكفي رهبة الوقوف بحيرة في مواجهة عدد لا يحصى من العقول التي تريد أن تعرف سر رحمي النازف؟

في رعبي الداخلي الذي يجفف اللعاب في حلقي أكتشف شباكاً من الخشب لونه أخضر، كم أنا سعيدة، أستطيع أن أهرب إذا أُطبق السقف فوقي، لكنني أبقى حذرة، يوجد فخ في مكان ما، يجب أن أجده، قبل أن أتنفس الصعداء.

يستقبلني رجال يلبسون البرانس البيض، وأسماؤهم مطرزة على صدورهم بخيط أزرق. إنهم طوني قطان طونين نخول ناجي خليل، أمير كرم، فادي حسون. في البدء كنت أخلط بينهم، ثم فكرت في أنني سأجلب معي شيئاً لنقيم حفلة معاً قبل أن أغادرهم نهائياً.

بدأت في الدخول إلى الحمام لأستحم من دون أن أفكر بوجوب أن نكون في المستشفى عند التاسعة صباحاً.

صرت أرندح أحياناً الألحان التي أحب، أبتسم لنفسي، أرضيها بكلمات مليئة بالأمل، ولكن الحال لم تدُم هكذا.

التفاعلات الجسدية قضت مراراً على تفاؤلي، واختصرت وجبات الطعام على البطاطا المسلوقة، المعكرونة المسلوقة، الأرز المسلوق، الجزر المسلوق، رضة ملح عصير حامض، وموزة إذا كان الإسهال الحاد يسمح بذلك، لا أنسى الفيليه المشوية أو صدور الدجاج.

أفيق في الصباح، أبتلع الأدوية، أذهب إلى المطبخ، أقف أمام البراد، أعود إلى غرفتي حاملة 2 توست في صحن كبير، أفكر بأنني سأضيف أيضاً البندورة الجبلية والخيار واللبنة المكبوسة بزيت زيتون وبعض الحبات من الزيتون الأسود. آكل بقرف، لا آكل بل أقرقش التوست الفارغ من أي شيء، أشرب السفن أب، اقرأ في الصحف، أهدأ وابدأ يومي وكأنني شاهدة ولست فاعلة.

الخبر الصاعقة

كل شيء بدأ ببعض "المشحّات" من الدم، اعتقدت أنني سأستعيد شبابي، وسأحمل من جديد.

أخبرت عدداً من الزملاء فمزحنا ثم نسينا، نسيت الأمر، لكن المرة التالية كانت أكثر جديةً، خصوصاً أنني أخاف رؤية الدم، فقررت أن أراجع طبيب العائلة.

نصحني باستشارة اختصاصي في الأمراض النسائية، ووصلنا هنا إلى طبقة ثالثة تحت الأرض.

بعد فحوص وركض من اختصاصي إلى آخر وأنا في حال انفصال عن ذاتي، لا أصدق ما يجري، كأنني شاهدة مفرغة من كل إحساس، وجوه، أوراق، دهاليز، مراكز متخصصة، ممرضات وممرضون، أوراقي، اسمي، بطاقة الهوية، بطاقة التأمين الطبي، وجوه مَن حولي تأمرني بخلع ثيابي؛ لألبس البرنس، لأدخل إلى مكان صغير ولأخرج منه إلى ممر فسيح تهجم منه موجة من الصقيع الذي يقزز الأسنان.

من جديد الأوامر: اخلعي، قفي، ارفعي يدك، لا تتنفسي، تنفّسي طويلاً، انتظري قليلاً، شكراً، البسي، سلامتك، يقولها وهو يفكر بالرقم التالي. كم الساعة؟ لا يهم، يردد الأوامر كالببغاء. الرغبات، لكل من يدخل إلى مملكته المصقعة.

الاختصاصي في الأمراض النسائية يُعلمني بالتطورات بالتقسيط، يقول لي: يجب أن أفحصك، يجب أن أقوم بـFrotti ستنزفين قليلاً، لا تخافي، كل شيء تحت السيطرة.

أجيبه: بما أنك تقول إن كل شيء يتم كما يجب فأنا لن أجادلك، ومرت أيام.

أول طريق الجلجلة بدأ مع النتيجة، لم أعتقد أبداً أن السرطان ينتظرني في نهاية المطاف. وعندما خضعت لـMamographie وقيل لي إن الوضع طبيعي اطمأننت، لكن طلب الـ Biopsie أخافني، عرفت أن هناك مشكلة جدية… وكرت السبحة: الدخول إلى المستشفى والبنج العمومي، والمكوث 24 ساعة، وأشياء صغيرة أشارت إلى أن هناك مفاجآت غير سارة.

وجاءت النتيجة: هناك ورم في عنق الرحم؟ يطلبون IRM.

المجابهة الأولى

إلى أوتيل ديو.. تسجيل.. انتظار.. أنا وأنطوان لا ننظر إلى بعضنا البعض. يقول لي فجأة: نحن مؤمنون، الله كبير، أجيبه بصوت خافت: إيه، الله كبير.

الساعات تمر ونحن على كرسيّينا، الناس يدخلون، يطلبون نتائج صورهم، يسجلون أسماءهم للتصوير. عالم جديد غريب عجيب، أتابع بعيني حركة مستديمة، ونحن على كرسيّينا، بلا أكل، بلا شرب، بلا شراع، لا نعرف أين تقلّنا سفينة قد تأتي، أفكر كيف تعيش كل هذه الوجوه؟ هل هم يتوقعون الأسوأ؟ يخافون مثلي، ترتجف يدي، أحاول أن أخفي هلعي، أنطوان يعرف جيداً أنني مرتعبة، لا يجد الكلمات التي تُهدئني، أعتقد أنه مرعوب، مرعوب يمكن أكثر منّي. الرجال رأسهم يشتغل بسرعة كبيرة عندما يكون الحدس قد تجاوز لديهم حال الاستنفار. أنا أكيدة الآن أنه يعرف نتائج الصور قبل أن أخضع لها.

لوريس غريب يقول أحدهم، إنهم ينادونني بهذا الاسم الذي تخليت عنه منذ سن المراهقة. مدام لوريس تفضلي، أنطوان يمسك يدي، ليته يستطيع أن يزيل البلاطة التي تضغط على رأسي.

من هنا مدام لوريس، ادخلي إلى هذه الغرفة، اخلعي ثيابك، البسي برنس، اخرجي وأغلقي المقصورة، ستدخلين بعد لحظات، أسمع الصوت الصغير الذي لا أعرفه وهو يسأل: أدخل أين؟ يدلني البرنس الأبيض بإصبعه على المكان الذي سأدخله، هل الوضع مخيف؟ أتمنى من كل قلبي أن تقول لي: لا، مزعج قليلاً. تصل طبيبة وتقول لي إنني سأخضع للتصوير مرتين، في كل مرة تستغرق الصورة من نصف ساعة إلى 40 دقيقة للحوض و20 دقيقة لمنطقة البطن، أنظر إلى أنطوان، يبتسم وهو يقول لي: أنا هنا.

أدخل، في وسط الغرفة شبه سرير ضيق، أحدهم يقول لي: اجلسي، استلقي، انظر إلى الوحش المبروم الذي سيدخلونني إليه ببطء. أصرخ: لن أدخل إلى هذا التابوت. أحدهم يقول لي. "أغمضي عينيك، لن ندخلك كثيراً، يجب أن نصور حوضك، يجب أن نعرف وضعك، مضطرين"، ثم يناولني كبسولتين ويقول لي: "ضعيهما في أذنيك" ويخرج.

أتنفس بسرعة، أحاول أن أعدّ من الواحد إلى المائة، ثم المائتين، لم أعُد أستطيع تحريك شفتي. أُصغي إلى صوت السرير وهو يدخل ببطء تحت الوحش، ما زلت أرى جزءاً من السقف، أتحمل، أعاود العدّ.

يفتح الباب، أسمع صوت أنطوان، أهدأ.

لم تكن التجربة الثانية سهلة أبداً، رفضت أن يدخلوني أكثر في التابوت، صرخت حتى دخلوا وحاولوا أن يُهدئوني، لكنني رفضت، قلت: لن أخضع، أريد أن أوقف كل شيء، لن أتابع، لم يقنعني أنطوان الذي دخل هو أيضاً. قلت له بصوت غاضب: "لا تحاول أن تقنعني فلن أرضخ، أريد العودة إلى البيت". عندها وعدوني بأن أنطوان سيبقى معي، يمسك يدي، يلمس شعر رأسي وكأنني طفلته التي تتعلق به لتستمد منه القوة لمتابعة المقاومة.

السند العاطفي يصنع العجائب

وجاءت النتيجة: أولا أنطوان الذي بقي من دون صوت، أجهشت بالبكاء، نظر إليّ طويلاً وقال لي: "الله كبير.. ستُشفَين"، ومسح دموعي، رأيت في عينيه دمعة لم تسقط.

مازن انهبل. قلت له على الهاتف: معي سرطان. عندي يمكن 6 أشهر لأعيش. يجب أن تأتي إلى البيت لننظم الأمور. قال بصوت خافت: "سأجلب معي مسجلة". قلت له: "سأبكي ولكن سأقول كل ما أريده حتى لو بكيت أنت". قال: "سنبكي معاً".

"رلى" في مونتريال قررت المجيء حالاً، ثم قالت لي: أريد أن ترسمي لي صورة تتحدثين عنك، عنّي منذ صغري وعن تيا. ارتفعت معنوياتي. أخذت أفكر هل سيمنحني السرطان الفرصة لإنجاز الطلب؟

وليد في الجزائر صعق.. لم يصدق.

دارت الاتصالات بين بيروت والجزائر ومونتريال، الأولاد يتهاتفون ليطمئن بعضهم بعضاً، يتصلون بي وبأنطوان. للمرة الأولى أنا أحتاج إليهم، للمرة الأولى أحتاج للجميع، يقولون لي: حافظي على شجاعتك.. كل شيء يتعلق بالمعنويات، أنت قوية وستُشفين.

جولات بين الاختصاصيين

مَن أصدق؟ مَن هو الأفضل؟ نحمل الملفات ونركض من موعد إلى موعد، ومن طبيب متخصص إلى آخر. مازن يرافقني؛ لأن أنطوان يصور مسلسلاً تلفزيونياً يضطره للسفر، يستمع إلى الشروح. لم نعُد نعرف ماذا نفعل؟ الشيء الوحيد الذي يعلق في الذهن هو أن العملية غير واردة؛ لأن الورم يبلغ 5 سنتيمترات. إذاً الحل يتلخص بجلسات راديوتيرابي وشيميوتِرابي. ومن ثم يقرر ما إذا كانت العملية ضرورية. هذا القرار من البروفيسور جورج شاهين، رئيس قسم الأيماتولوجي والأنكولوجي في أوتيل ديو الذي وجدته يناسبني، الوجه الذي ينظر إليّ ويريحني، كلامه يقنعني، شاهد الصور وقال: أنا أعمل مع فريق الدكتور إيلي نصر، حمل سماعة الهاتف وقال للمتلقّي: أرسل إليك لوريس الغريب، اهتمّ بها، ثم شرح لنا العلاج. قال: إن سرطان عنق الرحم وسرطان الثدي من الممكن الشفاء منهما نهائياً، أول مرة أسمع كلمة شفاء، لم أهتم كثيراً للشروح الطبية، لكنني تأكدت أن الشيميوترابي لن تتسبب بسقوط شعري.. شعري المنكوش دائماً، سيبقى على حاله. "ستخضعين أسبوعياً إلى جلسة خفيفة طيلة فترة جلسات الراديوتيرابي". خرجنا أنا ومازن، نسينا أننا انتظرنا في العيادة أكثر من ساعتين قبل أن نقابله، جاء القرار نهائياً: سأخضع للعلاج مهما كان، سأستعيد حقّي في الحلم بالغد.

التجربة

الإثنين 12 يوليو/تموز قابلت البروفيسور إيلي نصر. فحصني، قال: إن وضعي جيد، وإذا تجاوبت مع العلاج سأشفى، ثم قال: تحتاجين إلى 25 جلسة من الراديوتيرابي. نبدأ الأربعاء بالمرور بجلسة "السكانر" وبجلسة "سيمولاسيون" لنأخذ القياسات للمنطقة التي ستخضع للأشعة، ثم بجلسة تجربة نهائية اسمها MEP الجمعة قبل أن يبدأ العلاج الفعلي الإثنين التالي.

لم أعرف ماذا كان ينتظرني.

أول جلسة "راديو تيرابي" كانت تشبه الأفلام الخيالية؛ شباب باللباس الأبيض يدورون من حولي، أوامر، تمنيات، ترتيبات، وحدة قاتلة على سرير ضيق يعلو ويهبط بحسب الطلب. أنا وحدي تحت آلة ضخمة تدور حول حوضي المشرع على الصقيع والأشعة، لم أعد أملك حرية التصرف بأحشائي. شباب يلمسون بطني، يسمعون أرقاماً، مرجعهم هو حبات من الرصاص زرعت عند الحدود التي ستخضع للأشعة، إنها كالوشم في منطقة واسعة من الجزء الأسفل من حوضي الأمامي، يحركون أجزاء من بطني، يأمر صوت: لا تتحرك، أنظر وأنا مستلقية على ظهري إلى السقف، هناك خطوط أفقية في السقف كالخطوط الحمر التي تزيح الأوراق المهيّأة للهدايا، أسمع أنيناً من شيء يدور حول حوضي العاري. قلت في سري: الحمد لله أنني مصابة في رحمي وليس في رواياي لكان هذا الغول دار حول عنقي و"طحن" رأسي وصدري. غريب كيف المصائب تصبح نسبية! أنا محظوظة. أصابتي تبعد عني المواجهات المباشرة التي تقتل الاعتزاز بالنفس، كم أن النسبية تريح العقول، اتنبه إلى الأصوات، أصلي، أعد وأنا أتنفس بصعوبة من واحد إلى 300 وأتوقف، أنتظر، يدخل أحدهم، يغير أسطوانة، يخرج، هذا فيلم مستقبلي، سأراه في الحلم أو في الكابوس.

يضاء المكان، أسمع صوتاً يقول: سلامتك. يساعدني على الجلوس، أخرج، جاء دور غيري. هكذا طيلة النهار معي ومع هؤلاء الذين أراهم جالسين في صالة الانتظار. يقول أحدهم: إلى الغد. وأدخل مقصورة، أخلع البرنس، ألبس ثيابي، أخرج، "إلى الغد" تقول منى. ويخرج أنطوان وأنا ومعنا "قنينة المية" التي لا تفارقني؛ لأنها ترطب حلقي في لحظات الشدة.

وستمر خمسة أسابيع على النمط نفسه، أعتقد أنني محظوظة لأنني لم أكن قد جربت الشيميوترابي، وهنا بدأت الكوارث، ولم تنتهِ بعد مفاعيلها بعد، منذ الأسبوع الأول أصابني إسهال حاد وحتى اليوم لم يتوقف نهائياً، إسهال مصحوب بأوجاع في المصارين لا تحتمل، لكنني لم أفهم في البداية أنه بسبب "الشيميوتيرابي".

كنت أعتقد أن كل شيء يمر من دون تفاعلات جانبية، كانت" الكريزة" الأولى مساء الجمعة. تحملت الوجع، بكيت، تذمرت.

أنطوان ينظر إليّ وأنا أتلوى من الوجع. أقول له: لماذا هذا الوجع؟ لا أعرف إن كنت سأتحمل حتى نهاية العلاج. وهو يشجعني ويقول: "فكّري أنهيت الأسبوع الأول ولا يبقى سوى أربعة.. فقط أربعة".

ما يتحمله يوازي ما أتحمله تقريبا، يعاني مثلي، أشعر بأنه سيختنق، أصمت، أقول له: سأرسم، أدخل إلى محترفي، يرتاح، يستطيع أن يدخل إلى غرفته، وأنا أمسك بيدي اليسرى بطني وأرسم باليد اليمنى، أرسم وأتوجع وأشتم الأطباء والعالم كله.

أتساءل: كيف يتحمل جميع الذين يتبعون هذا العلاج أوجاعهم؟ وفجأة عرفت لماذا يستلقون على الأسرّة عندما يخضعون لجلسة "الشيميو"، خصوصاً هؤلاء الذين يتحملون جلسات عدة في الأسبوع وبنسب أكبر بكثير مما يسري في عروقي في الجلسة الأسبوعية الواحدة.. ثم اعتدت على كل شيء.

ذات يوم أردت مقابلة الدكتور نصر؛ لأسأله كيف عليَّ أن اعالج مشكلاتي؟

كان في اجتماع، استقبلني بابتسامته المعهودة وقال لي: كيف الإسهال؟ إنه في مانشيت الصحف هذا اليوم. كان جوابي مضحكاً للغاية، من كان في العيادة من أطباء فهموا أنني أمزح، ليتني أستطيع أن أمزح كما كنت أفعل دائماً.

انتفاضتي أفادتني، قررت التحكم بكل شيء رغم الواقع الذي أعيش، ولم أفقد عقلي ولم أستسلم لليأس وتصرفت وكأنني في حال منفصلة عن واقعي لدرجة أنني كنت، عندما أشاهد أحدهم وأنا أخرج إلى العلاج ويسألني بطريقة روتينية: كيف حالك؟ أجيبه بأنني بخير في شكل طبيعي ليس فيه أي خبث.

الأسبوع الأخير

لم يغِب عن فمي في الأسبوعين الأخيرين طعم شيء ميت في فمي، لا أتحمل أي رائحة، أُمضي وقتي في الابتعاد عن الناس، رائحتهم تقتلني. أشعر بأن الغثيان سيبقى مسيطراً عليّ مدة طويلة، أضع قطع الثلج في فمي، أهدأ قليلاً، أفكر بأشياء جميلة، ولكن الواقع أقوى، أحاول أن أنام بلا جدوى، لم أعد أنام في الليل سوى ساعات قليلة، ولكنني في قرارة نفسي أعرف الآن أنني سأشفى.

فحصني الدكتور نصر وقال لي "ستُشفين". تجاوبت في شكل جيد مع العلاج. أسأله: ممكن نلغي آخر جلسة من الشيميو؟ أجابني: غداً تقابلين الدكتور بريحي الذي سيفحصك؛ لأنه هو الذي سيقرر كيفية ومدة المكوث في المستشفى؛ حيث سيضع المادة المشعة مباشرة داخل الجهاز الذي سيزرعه في رحمك جراح متخصص، سنأخذ رأيه.

رغم أن الفحص أظهر أن الورم صغر كثيراً، فإنه فضل أن أخضع للمرة الأخيرة لـ"الشيميو".

ودّعت الجلسة، أنا التي أكره أن أتصور، بصور لي ولطاقم "الراديوتيرابي" أمام الوحش الذي كان يرعبني. وصورة أيضاً وأنا أجلس وفي عروقي تجري المواد التي تنقط نقطة مدة 3 ساعات. وضحكت مع الدكتور شاهين وتصورت معه وفي ذهني المحترفة التي تقول في داخلها سأستعمل هذه الصورة في مقالي (هذا الذي تقرأونه).

واليوم قبل أن أذهب للمرة الأخيرة إلى "الراديوتيرابي" قرأت في "باري ماتش" أن الممثل الفرنسي – البلجيكي برونو كرامر "المفتش ميغري" الشهير قد توفي على أثر سرطان أصابه وأفقده صوته، حتى اضطروا للاستعانة بصوت آخر ليسجل الحوارات في آخر حلقة من المسلسل الذي استمر 14 سنة.

حزنت، كنت أحبه كثيراً وأتابع كل حلقاته بشغف، لم ينَل الحظ الذي نلته، أنا مرتاحة، أستطيع من جديد أن أخرج من البيت من دون أن أخاف أن يفاجئني إسهال يشلني ويرعبني.

غيري يحمل في حقيبته قلماً أحمر، علبة ماكياج، علبة دخان وقداحة، أنا أحشي حقيبتي بعلبة مليئة بالأدوية التي أحتاجها في حالات عدة، وأضيف محارم ومساعدات صحية واقية. كلما أصل إلى مكان، إذا اضطررت للذهاب إليه، أبحث عن موقع المرحاض لأستريح. كم هي كبيرة كلمة أستطيع! كم تفتح أمامي أبواباً من جديد؟ سأعود إلى العالم.

قبل أن أقلب الصفحة أشير إلى أنني، رغم كل شيء، بقيت أرسم، أكتب، أقرأ، أطبخ، أهتم بشؤون البيت والعائلة، وإن بنسب متفاوتة.

تختلط على طاولتي التي أرسم عليها علب الأدوية مع الأقلام والريش والخيطان والأشرطة والخرز، وبسرعة أجد ما أبحث عنه.

رأسي مسكون بعقلين؛ الأول يهتم بالأمور المرئية، والثاني يخطط ويباشر في إعادتي إلى اتزاني كل مرة، يميل عقلي الأول لدفعي إلى الانزلاق نحو الاستسلام والبكاء والتذمر.

غداً ستعود الأمور إلى طبيعتها تدريجياً، لن أفكر بالعملية الآتية.

أكتفي بشعوري بأنني نجوت، والباقي تفاصيل، هكذا يجب أن يكون.

هذه الشهادة لتحقيق الحق، السرطان ليس مرضاً معيباً يجب التستر عليه وكأنه من المحرمات التي تستوجب الوشوشة عندما نذكره أو نقول عنه: "هيداك المرض"، ولنعرف أن المصابين به يستحقون الاحترام؛ نظراً إلى ما يعانون من آلام نفسية وجسدية لا تحتمل إلا بشجاعة فائقة، السرطان ليس البرص، فلنكفّ عن إدارة ظهرنا كلما نشاهد طفلاً ملفوفاً بشرشف أبيض، رأسه يلمع تحت الضوء، وعيناه مُطفَأتان، إنه الصورة الخارجية لمرض ملعون.. محظوظون الذين يسلمون، أنا لا أصدق أنني نجوتُ.

تم نشر هذا المقال في موقع النهار

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

لور غريب
صحفية لبنانية
تحميل المزيد