يعيش الصومال في هذه الأيام حالةً من الاستقطاب السياسي بين طرفَي الصراع، الحكومة بثِقَلها في مواجهة مجلس التشريع، وبينهما يدفع الشعب فاتورة عراكهما بأثمانٍ باهظة.
واصطفافي خلف رئيس البرلمان الفيدرالي محمد عثمان جَوَارِي لا تعني أنّه تربطني به علاقة شخصية، أو معرفة قديمة، فالرجل أُتابع -فقط- خُطَبَهُ الرنّانة بين الفَيْنة والأخرى، وإدارته الصارمة لمجريات النقاش داخل قُبّة البرلمان كغيري من مواطني جمهورية الصومال، ومداخلته المشهورة "من فضلكم وإحسانكم" التي يُكثر استخدامها لإعادة المياه إلى مجاريها، وافتتاحيّته المميّزة "وعباد الله الصالحين أجمعين".
لكن ما لفت نظري ودعاني إلى كتابة هذا المقال، هو حجم الاحتقان السياسي، والتأزم المقصود من أجل عرقلة سير المجلس التشريعي، وهي إجراءات أقلّ ما تُوصف بأنها "بلطجية سياسية" الهدف منها: ليّ ذراع المجلس التشريعي، وتحويله إلى أداة طَيّعة تخدم أجندة مجموعة "فيلا صوماليا" الإقصائية.
الصومال مرّت على محطات سياسية مختلفة من حكومات انتقالية، كان الدستور فيها خاضعاً للتعديلات المستمرة، ليواكب مرحلة النظام الفيدرالي؛ لتكتمل رؤية صومالٍ ديمقراطي يدلي الجميع فيه بأصواتهم لانتخاب مَن يناسبهم لقيادة دفّة البلاد والعباد.
فالصومال لا يحتمل خلافات سياسية بالقدر الذي نشاهده في الآونة الأخيرة، ومعركة كسر العظام لا تخدم أجندة الوطن بقدر ما تُسهم في جعل المشهد السياسي قاتماً للغاية.
* أسباب الخلاف:
يكتنف الغموض موقف حكومة حسن علي خيري إزاء ما يجري داخل أروقة البرلمان، فهي آثرت عدم التجاوب مع الحدث، وتقليم أظافر معارضيها من المجلس التشريعي؛ بعيداً عن مرأى ومسمع الشعب، وهي خطوة -برأيي- غير موفّقة من شأنها أن تزيد الشّرخ، وتفتح الباب على مصراعَيه لتداول الشائعات.
واستعان في المقابل رئيس المجلس التشريعي (البرلمان) بالإعلام من باب الاستقواء -على الأقل في أزمته الأخيرة مع خيري- وهي خطوة ذكية، تعطي الشعب تنويراً بما يجري؛ ذلك أن البند 32 من الدستور الفيدرالي الصومالي ينص صراحةً على وضع الشعب أمام الصورة الحقيقية بالمستجدّات على الساحة، وشرح ما التبس من مواقف متنافرة؛ ليتبنى الشعب مواقفه المؤيدة، أو المعارضة، بناءً على ما توفّر لديه من معلومات.
ولا تزال حقيقة الخلاف بين المجلسين مُبهمة حتى اللحظة، وكل ما توفّر مجرد تكهنات لا تَمّتُ إلى الحقيقة بصلة، وتدور كلها في فلك مؤامرات أزمة الخليج، وما تولّد عنها من مواقف متضادة ومتجاذبة يدفع الشعب الصومالي ثمن فاتورتها غالياً، خاصةً أن الخلاف تزايد بعد قرار منع البرلمان مزاولة هيئة موانئ دبي عملها في الصومال، وترقية قطر رئيس بعثتها إلى سفيرٍ فوق العادة.
* الحلقة المفقودة:
السياسة الصومالية عموماً تقوم على مبدأ الصراع والمناكفة، ولا تخلو من تجاذبات سياسية بين مكونات أجهزتها المختلفة، ففي السابق كان الخلاف محتدماً بين رئيسي المجلسيْن، أو الرئيس ووزيره الأول.. لكننا الآن أمام وضع مختلف تماماً، والسبب يُعزى لتصرفات الوزير الأول، التي تتسم بالمراهقة السياسية، ومليئة أيضاً بروح العدوانية وتصفية الخصوم، فقبل عِدة شهور اختلف مع عمدة مقديشو، وقبله مع بعض وزرائه مروراً بحادثة مقتل حرّاس وزير التخطيط والتعاون الدولي السابق عبد الرحمن عبد الشكور، واليوم مع رئيس البرلمان، وهي تجاوزات تتنافى مع روح الدستور وقيم العملية السياسية برمّتها.
ويُعتبر الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو الحلقة المفقودة في الأزمة الأخيرة، فتدخّله الأخير لتأجيل الجلسة البرلمانية أسهم -إلى حد ما- في تهدئة الأوضاع، وإحكام السيطرة على المجالس الحكومية، وحظيت خطوته تلك باستحسان الجماهير، فهو المخوّل -حسب الدستور في بنده 87- بالفصل بين خصومات المجالس وفق ما يتّسق مع القوانين، ويُعلي من مصلحة الوطن.
* علاج وليس مهدّئات:
تعود جذور الأزمة الحالية لعدم اكتمال صياغة الدستور الفيدرالي، وتداخل المهام التنفيذية بالتشريعية، وخلط الأوراق، وكل المحاولات الرامية إلى تهدئة الأوضاع وعلاج القضايا الشائكة وفق فلسفة أنصاف الحلول، إنما تأتي في سياق كبسولات التهدئة في جسمٍ ينخرها السرطان وبحاجة إلى علاج حقيقي، وللخروج من المأزق الحالي أقترح الآتي:-
1- الإسراع في إكمال مشروع صياغة الدستور الفيدرالي بما يتواكب والمعطيات على الأرض، وفق آليات ديمقراطية شفّافة.
2- تغيير الوزير الأول وتعيين رئيس وزراء جديد لضخّ دماء جديدة في هياكل الحكومة، شريطة أن يتمتع بنفوذٍ واسع وسط قبيلته.
3- فصل المهام التنفيذية عن التشريعية، وتشكيل مجلس للوزراء من طبقة التكنوقراط، فمعظم وزراء التشكيلة الحالية من البرلمان، ما يعتبر في اللغة القانونية "بتعارض المصالح".
4- توسيع دائرة المشورة للرئيس، وإشراك جميع ألوان الطيف السياسي فيها، وعدم حصرها في مجموعة "إقصائية" ضيّقة تولي الاهتمام في مصالحها، وتكمّم أفواه المعارضة بفوهة البنادق.
وأخيراً، علينا المحافظة على المكتسبات الوطنية، وعدم التهاون فيما يمس هيبة الدولة، والبرلمان يأتي في صدارة المكتسبات الوطنية، فالتعدي على سيادته، وعرقلة مساعيه يُعتبر نكسة في وجه جهود المصالحة، ومن ثمّ العودة إلى المربع الأول.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.