هل أنت شخصٌ ناضج؟ هل آنَ لنا أن ننضج؟ أم أن الوقت المناسب للنضج لم يأتِ بعد؟ هل تتطلَّب منا العشرون وما تليها أن نتحلَّی بالرشد وندع الصفات الصبيانية الحمقاء جانباً، أم أن الرشدَ ليس له سِن بعينها؟ هل كل الذين نسألهم عن أعمارهم فنجدها تفوق الثلاثين، ولربما الأربعين هم بالفعل أشخاص ناضجون، أم أنَّ السن وعظمتها صوَّرا لهم أنهم بالفعل قد نضجوا، رغم أنهم لم يفعلوا بعد؟
كلها أسئلة يمليها عليَّ عقلي، في محاولة منه لإيجاد معيار واضح وصريح للرشد والنضج، رغبةً في العثور علی تفسير منطقي واحد لكل الأفعال الطفولية الصبيانية، التي لا تتناسب مطلقاً مع أعمار أصحابها.
فأحدهم ما زال لا يجرؤ علی الاعتراف بأخطائه رغم أنَّه أتمَّ عامَه الثلاثين ليلة أمس، وآخر يعشق المقالب الطفولية الحمقاء، رغم أنه قارَبَ علی تخطِّي الأربعين من عمره، وغيرهما لا يملك شجاعة الاعتذار، وغيره لا يعترف بحقوق البشر أصلاً، وكلهم موقنون أنهم قد وصلوا بالفعل لأعلی مراحل النضج، ولا أعرف كيف!
الحقيقة أن الرشدَ لا يتحقَّق بلمح البصر، ولا يأتي عقب بلوغ سن بعينها، بل إن هناك مَن يعيش ويموت دون أن يعرف معنی للرشد من الأساس، ربما لأن الأمر ليس بهذه البساطة، أو لأنك قد تنضج في أشياء دون غيرها، وهو حال أغلب البشر.
وعموماً للنضج علامات، منها أن الأهم من معرفتك مَا تريدُ هو أن تحدد أولاً ما الذي لا تريده، وأن تملك شجاعة رفض كلِّ ما هو ضد مبادئك ومعتقداتك، فربما لا تعرفين ما مواصفاتُ فتی أحلامك مثلاً، لكن من الضروري جداً أن تحددي أنه من غير الممكن الارتباط بشخص ليس علی خلق، أو أي أحد كان؛ لأنها مسألة نسبية بالتأكيد، وحينها سترفضين الارتباطَ بأي شخص ليس علی خُلق، حتی لو كان آخرَ رجالِ الكوكب، حتی لو قالوا عنكِ "عانس"، أو مهما بلغتِ من العمر أرذله.
كذلك قد لا تعرف ما الوظيفةُ التي ترغب في العمل بها طوال حياتك، ولكن ينبغي أن تحدد أنه من رابع المستحيلات أن تعمل بوظيفة ضد دينك مثلاً، أو أياً كان، أيضاً لأنها مسألة نسبية هي الأخری، وحينها سترفض أي وظيفة ضد دينك، كأن تعمل في "بار" مثلاً، حتی لو كان الراتب ملايين الجنيهات، وحتی لو لم تجد وظيفة غيرها.
ومن علامات النضج أيضاً أن تمتلك شجاعة تكرار نفس التجارب مراراً، بغضِّ النظر عن فشلها السابق؛ لأنه يتوجَّب عليك أن تكون علی دراية كافية بأن التجارب لا يمكن تعميمها أبداً علی الأمور كافة، أو علی البشر أجمعين؛ لأن كل شيء من حولنا نسبيٌّ، وما يفشل في تجربة قد يفلح في أخری، والعكس صحيح، فلو اعترفت بحبك لإحداهن وكان ردُّ فعلِها مجحفاً أو مهيناً لك بدرجة كبيرة، فهذا لا يعني مطلقاً أن تتوقف عن الاعتراف بحبك لأي فتاة أخری مدی الحياة، وهو الحال ذاته حين تسألين أحدَ المارّة عن عنوان المطعم الفلاني مثلاً، فيسخر منكِ بطريقةٍ أو بأخری، هذا لا يعني مطلقاً أن تتوقفي عن سؤال المارّة عن أيِّ شيء طوال حياتكِ! بل النضج بطريقة سليمة يعني أن نستطيع التفرقة بين الأمور، وكذلك بين الأشخاص، وأن نتعامل مع كلٍّ منهم علی حدة، فنكتسب من كلِّ تجربة خبرةً عن كيفية التعامل فيما بعد، دون أن نتوقَّف عن تَكْرَار التجربة ذاتها!
وكذلك من علامات النضج أن نتخلَّص من الرغبة الدفينة في التعرّف علی عددٍ خرافي من الأشخاص، حتی لو لم يكن يجمعنا بهم أي توافق فكري، فقط لأجل كسب صداقات جديدة، وأن نستبدلها بالرغبة في التعرف علی مَن هم متوافقون معنا بالفعل في المبادئ والمعتقدات؛ لأن النضج يستوجب منا تقديراً منطقياً لعنصر الوقت، الذي لا يمكن إهداره أبداً مع شخص لا يوجد بيننا وبينه أي نقطة التقاء أو تفاهم.
فقد تخصِّصين جزءاً من وقتكِ للنقاش مع أحدهم عن أفضلية السفر لألمانيا على كندا مثلاً، لكن لا يعقل أبداً أن تخصِّصي هذا الوقتَ للنقاش مع أحدهم حول أحقية البنت في السفر أصلاً من عدمها! كذلك قد تخصص جزءاً من وقتكَ للنقاش مع أحدهم، عن أفضل فيلم أُنتج هذا العام، لكن لا يعقل أبداً أن تخصص هذا الوقت للنقاش مع شخص لا يجد جدوی من مشاهدة الأفلام بالأساس.
وكذلك من علامات النضج أن نؤمن بحريات البشر أجمعين، بغضِّ النظر عن دينهم، جنسهم، لونهم، أو حتی مبادئهم، وأن نعرف جيداً أن الكلَّ حُرٌّ ما لم يضر، فالتدخين حرية، والحجاب حرية، وشرب الخمر حرية، والرقص حرية؛ طالما لا يضرونك أنت شخصياً، وأما عن الجانب الديني فينبغي أن تدرك وجود ربٍّ يحاسب البشرَ أجمعين.
وأن نؤمن بالنسوية "Feminism"؛ لأنها لا تخصُّ الأناثَ وحدَهن؛ بل هي جزء لا يتجزأ من إيماننا بحريات البشر، فكونك "فيمينست" لا يعني إيمانك بحقوق المرأة وحدها، بل يعني إيمانك بأن المرأة لها نفس حقوقك، باعتبارها بشراً، ما دمنا اتفقنا علی وجوب الإيمان بحقوق وحريات البشر أجمعين.
ومن النضج أيضاً أن نمتلك قدرة التعبير عن مشاعرنا وانفعالاتنا، فليس من المنطق أن نغضب ونترك الآخرين من حولنا غارقين في بحر التخمينات، ليس من المنطق أن ننعزل عن العالم فجأة من دون أية أسباب، ونقطع عنا أي وسيلة اتصال ممكنة، ونختفي فقط لأننا نمر ببعض الضيق، البشر ليسوا سحرة، وغير مجبرين علی استكشاف ما أغضبنا، ما دمنا لم نملك شجاعة التعبير عنه؛ لأن هذا نوع من الهروب وعدم تحمل المسؤولية.
أما النضج فيتطلب منا الوضوح والصراحة بشأن ما نمرُّ به، وما يتطلب ما نمر به منا، وممن حولنا، لا إساءة في أن تقول "أغضبني كذا وكذا، فقررت أن أنعزل لبعض الوقت!"، وقتها فقط ينبغي علی الجميع احترام قراراتك ما دمت قد شرحت لهم الأسباب.
أما اختفاءات دون مبررات فهي أفعال صبيانية، يفعلها فقط مَن لا يقوی علی المواجهة.
وكذلك من النضج أن تعرف أن القوة الحقيقية لا تكمن في انعدام الخوف؛ بل تكمن في القدرة علی مواجهته، فخوفك من السفر وحدك مثلاً طبيعي جداً وليس فيه من الضعف شيء، لكن القوة الحقيقية هي أن تتخذ قراراً بالسفر وحدك بالفعل لمواجهة هذا الخوف، وكذلك خوفك من الكلاب أمر طبيعي للغاية، وليس فيه من الضعف شيء، لكن القوة الحقيقية تكمن في اتخاذك قراراً بالتعامل مع كلاب أصدقائك بدلاً من الجري منها كالأطفال.
وأن تؤمن أن البشر أجمعين يستحقون منك تفسيراً لكل شيء متعلق بهم، فحين تتخذ قراراً بإنهاء علاقتك بشخص ما يتوجب عليك توضيح أسبابك، يتوجب عليك أن تشرح ما كان يؤرقك في علاقتك به، وما الذي دفعك لإنهاء تلك العلاقة، لكن لا يصح أبداً أن تقرر فجأة أن تقطع علاقتك بفلان فتمسح رقمه من هاتفك النقال، وتلغي صداقتك به على الفيسبوك، وتتركه في حيرة لا يفهم ما الخطب.
وبالمناسبة توضيحك لأسبابك ليس بالضرورة معناه أنك ستدخل في نقاش قد ينتهي بتراجعك عن قرارك، بل كل ما في الموضوع أن البشر يستحقون منا تفسيرات، حتی لو كانت قراراتنا تجاههم قرارات نهائية مليون بالمائة ولا رجعة فيها.
وكذلك من النضج عدم الخجل من الاعتراف بالخطأ أو الاعتذار عنه، لسنا ملائكة، ومن الطبيعي جداً أن نرتكب أخطاء لأننا بشر أولاً وأخيراً، ولكن من الغباء تكرار الخطأ ذاته عدة مرات، مع نفس الأشخاص، وبنفس المعايير.
وعموماً للنضج دلالات أخرى غير التي ذكرتها بالتأكيد، لكن السن ليست واحدة من تلك الدلالات، والحادية والعشرون ليست معياراً للرشد والبلوغ، والنضج نسبي، يختلف من شخص لآخر، كما أنك قد تنضج في أشياء دون غيرها، كما ذكرت من قبل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.