"عندما تشم الحريق ولا تُنذر مَن حولك.. فأنت بشكل ما ساهمت في إشعال الحريق".
منذ قليل رحل عن دنيانا صاحب هذه المقولة الدكتور أحمد خالد توفيق، والشهير بالعرّاب، هذه العبارة التي لو أسقطها على كتاباته ومواقفه لوجدتها تصلح لتوصيف منهج حياة هذا الراحل الكريم، فيكفي هذا الرجل المحترم أنه لم ينجرف إلى مستنقع النفاق والتطبيل وممالأة الظلمة المنتشر في بلدنا الذي ساده الجنون، والذي أصبح مجرد السكوت فيه باباً عظيماً من أبواب الشجاعة.
وعلى الرغم من هذا، فإنه لم يسكت ولم يُداهن، وأثبت لنا في الكثير من المواقف أنه لم يكن يضحك علينا، أو مجرد كاتب موهوب يتلاعب بالكلمات التي رزقه الله حُسن تدبيجها، وعلى سبيل المثال فموقفه من فضّ اعتصام رابعة في وقت كان مَن يتجرأ فيه ويندّد بهذه الجريمة يُتهم بالإرهاب، ويُحاكم وفقاً لهذا الاتهام.
قليلون هم مَن يستطيعون التأثير بأقلامهم على أجيال كاملة، قليلون لدرجة أنهم من الممكن ألّا يوجدوا في أجيال بأكملها، وتزيد هذه الندرة في الأمم التي تكاد تكون لا تقرأ كأمّتنا العربية، والأستاذ أحمد خالد توفيق واحد من هؤلاء.
فمَن مِن جيلي لم يقرأ سلسلة ما وراء الطبيعة؟! تلك السلسلة التي ألهمت جيلاً كاملاً من القرّاء والكُتّاب، ببطلها الدكتور رفعت إسماعيل، ذلك العجوز عليل الصحة الذي كسر الصورة النمطية لأبطال الروايات، فهذه الشخصية بالذات مُلهِمة لأبعد حدّ، فقد أوحى لنا من خلالها أنه ليس من اللازم أن تكون شاباً أو قوياً أو حتى سليم الصحة حتى تكون بطلاً، ومثل هذه الشخصيات تحتاج لإبداع استثنائي –كان موجوداً بوفرة عند الدكتور أحمد خالد توفيق- حتى تستطيع إقناع القارئ الذي تعوّد على مقاييس معينة للبطل ببطولتها.
سلسلة ما وراء الطبيعة بأعدادها الـ80 لم أكن أقرأها فقط لكي أملأ بها وقت فراغي، وأسلّي نفسي بقصصها الممتعة، أو أمتّع نفسي بسلاسة لغتها وسهولة أسلوب صاحبها، أو جمال سرده، بل إن هوامشها أيضاً كانت زاخرة بالمعلومات التي تُحيلك إلى منابع الثقافة العالمية، والتي كانت سبباً في دخولي إلى بوابة الأدب العالمي من خلالها، فيحضرني هنا مثلاً رواية الدكتور جيكل ومستر هايد، للكاتب الإنكليزي روبرت لويس ستيفنسون، التي كانت أول ما قرأت من روايات الأدب العالمي، بعد أن ذكرها في هوامش أحد أعداد سلسلة ما وراء الطبيعة، مع وصف مختصر لها، هذا بالإضافة إلى الأساطير التي كان يُرجعها إلى أصولها الثقافية، وإلى السبب الذي نشأت الأسطورة من خلاله، مما ربَّى عندي وعند قُراء جيلي حاسة نقدية ممحّصة وراء ما نسمعه من حكايات وأساطير.
هذا جانب من استفادتي الشخصية من سلسلة ما وراء الطبيعة، التي رافقتنا لأكثر من 20 عاماً، والتي عرفتني على الدكتور أحمد خالد توفيق "العرَّاب"، الذي أسس لأدب الرعب الراقي في العالم العربي، وتتلمذ على يديه معظم كُتاب أدب الرعب الموجودين على الساحة الأدبية الآن.
أما مرحلتي الثانية مع أدب الدكتور أحمد خالد توفيق فكانت في العام 2008 مع رواية "يوتوبيا"، وهي رواية ديستوبية صادمة تتحدث عن مصر عام 2023، ويتنبّأ فيها "العرَّاب" بأن الأغنياء سيعزلون أنفسهم داخل مدينة، ويطلقون عليها اسم "يوتوبيا"، يحميهم فيها مارينز الجيش الأميركي، وسيتوافر في هذه المدينة كل ما يرون هم أنه من ملذات الحياة، حتى إنهم سيصابون بالملل والتخمة من غناهم وتوافر النعم في أيديهم.
أما عن خارج سور هذه المدينة التي سمّوها "اليوتوبيا" فعالم فوضوي لا وجود فيه لنظام أو دولة، غابة يعيش فيها أشرس مخلوق على وجه الأرض –الإنسان- بلا قيم أو وازع، لقد تخلّى الأغنياء والمتعلمون عن أهاليهم من الفقراء، وتركوهم لجهلهم وفقرهم ومرضهم.
الوصف الذي وصفه "العرَّاب" للعالم خارج اليوتوبيا لا يفارق ذهني كلما مشيت في شوارع القاهرة أو ركبت مترو الأنفاق، الذي كان مسرحاً للكثير من أحداثها بعد تعطّله، لا أريد أن أحرق الرواية لمن لم يقرأها، وأما مَن لن يقرأها فأقول له: إن مجرد متابعتك للواقع المتسارع للأحداث لن يجعلك تفوت الكثير.
أقول: إن هذه الرواية عرّفتني على وجه آخر للدكتور أحمد خالد توفيق، هذا الوجه هو الحكمة، والقدرة على قراءة الواقع، والإنذار والتنبيه من الخطر القادم، أو الحريق القادم، على حد تعبيره رحمه الله.
وإذا تكلمت عما تعلمته من أعمال هذا الرجل فلن يكفيني مقال واحد، فروايات مثل: "في ممر الفئران، السنجة، يوتوبيا" تحتاج إلى مقالات مستقلة؛ لكي أتكلم عما استفدته منها، أو مدى عمق أفكارها.
رحم الله الدكتور أحمد خالد توفيق، ورحم الله كل مَن أنار بحروفه ظلامَ الجهل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.