لا أعرف من أين أبدأ في وصف معاناة إنسان بات حقه في السكن والشعور بالاستقرار حُلماً ربما يبدده الواقع! معاناة لا تتوقف أضرارها عند تهديد استقرار مئات الأسر المغتربة التي وجدت في إسطنبول موطناً بديلاً عن بلاد تضيق بأبنائها، أو تُشعرهم بعدم الاستقرار واستمرار الخوف من المستقبل، إذا ما قرر صاحب العقار عدم تجديد عقد الإيجار!
موقف أعتقد أن عدداً كبيراً جداً من الأجانب، وخصوصاً العرب، لا يرغبون في تخيل حدوثه؛ نظراً لما يعانيه كل باحث عن سكن من مصاعب وعقبات وتكاليف مالية ليست بالهينة، في ظل أوضاع اقتصادية سيئة يعيشونها.
عقبات وصعوبات يعيشها أي إنسان داخل بلده وخارجه، ربما تكون أصعب مع الأجنبي، لكنها لا تتوقف عند حدود المجهود البدني من خلال البحث والضغط النفسي والتوتر الذي يلازم الأجنبي حتى يوقّع عقد الإيجار الجديد، أو الأعباء المالية.
فالأصعب على نفس المغترب كلمة منفية لا تحتاج سوى ثانية تخرج من فم سمسار أو مالك عقار؛ ليسمع بعدها الأجنبي صافرة نهاية المكالمة أو "شكراً.. تشرّفنا بك.. في رعاية الله"، إذا كان اللقاء مباشراً.
كلمة ليست ككثير من الأمور المحزنة التي تبدأ كبيرة ثم يمحوها الزمن، أو يقلص من آثارها في نفوس البشر، كلمة منفية ينتفي معها وصف تكوينها بأحرف، بل برصاص يمزّق قلوب السامعين، ويُشعرهم بمرارة الغربة.
لم تكن هذه الكلمة واسعة الانتشار منذ قدومي إلى إسطنبول، وكانت الأمور تسير بشكل أفضل بكثير مما نعيشه الآن، وبدأت تأخذ شكلاً تصاعدياً، حتى أصبحتُ لا أستبعد رؤيتها مكتوبة على لافتات! فربما تكون أقل حِدّة على نفوس مَن لا يحبون أن يسمعوها! ربما تكون أهون من تلك التي أصابت قلوبنا بآلام عظيمة فتحت أبواب الشعور ببعض العنصرية في التعامل معنا.
همّ عظيم يضاف إلى هموم لا تُعدّ ولا تحصى نحن محمّلون بها، سواء تلك التي تعاني منها بلادنا أو فِراق أحبتنا.
ظاهرة دفعتني زيادة وتيرتها إلى متابعة أسبابها بالتواصل مع كثير من الأصدقاء الأتراك من جهة، ومراقبة نمط حياتنا كعرب، وما إذا كان ثمة سلوكيات أو أفعال أسهمت في هذه الظاهرة، أو كانت حجر الأساس لها.
جاء في حديث عدد من المواطنين الأتراك عن زيادة أعداد الأجانب المقيمين في إسطنبول أنها ظاهرة أثّرت بالسلب عليهم؛ كونهم أيضاً مستأجرين بارتفاع أسعار الإيجارات بصورة جنونية وصلت إلى 200 و300% وسعي عدد كبير من أصحاب العقارات إلى رفع القيمة الإيجارية عليهم بالمثل مع أسعار السوق الجديدة.
كما تضاعفت معاناة عدد كبير من الشباب التركي المُقدم على الزواج، ويتقاضى مرتباً لحداثة التحاقه بسوق العمل ربما يكفي بالكاد دفع إيجار الشقة (فمثلاً لو أن راتب الشاب 1800 ليرة يدفع ما لا يقل عن 1000 ليرة منها إيجار شقة ليست جيدة، لا تتجاوز مساحتها 70 متراً، بخلاف فواتير الكهرباء والغاز والمياه والأطعمة).
وهذه حقيقة، ولكن المتهم فيها مكاتب السمسرة التي استثمرت زيادة الطلب ورفعت الأسعار بدون ضابط، وتحقق مكاسب مضاعفة لنفسها قبل ما يحققه المالك من مكاسب أقل من تلك التي يحصل عليها الوسطاء.
الحقيقة أننا لسنا متهمين كما نُرى، ولكننا ضحايا لا نملك خيارات، فنقبل ونتحمل أعباء اقتصادية لا ترحم غربتنا ومظلومياتنا التي أجبرتنا على الخروج من بلادنا.
ثم ننطلق إلى فضاء أوسع بمراقبة طبيعة العلاقات التي تربط الأجانب بجيرانهم الأتراك، لعلّ فيها ما يمكن أن يكون سبباً لظاهرة الكلمة المنفية، وجدتها كعادة المدن قليلاً من الحديث وعلاقات تكاد تكون منعدمة، اللهم إلا سلاماً عند اللقاء قدراً أثناء الدخول أو الخروج.
في بعض الأحيان، ربما يُحدث الأطفال إزعاجاً أو ضجيجاً للسكان في أوقات متأخرة من الليل عكس ما يعتاده السكان من أن الأطفال يلعبون في الحدائق والأماكن المخصصة لذلك وليست المنازل، وخصوصاً في الليل.
يعبّر السكان عن انزعاجهم بالطَّرْق على مواسير الغاز أو بعصا خشبية على سقف مساكنهم إذا كان مصدر الإزعاج من الأعلى. وفي حال تكررت يتوجهون إلى سكان الشقة مصدر الإزعاج، وهناك مَن يتحدث بطريقة يعبر بها عن انزعاجه من دون أن يشعر السكان بما يسوؤهم أو يُشعرهم بعدم تقدير، متفهماً كون أبنائهم ما زالوا في سن الطفولة.
أعرف صديقاً أجنبياً ضرب أطفاله الذين لم يتجاوزوا سن الخمس سنوات ضرباً مبرحاً بعد شكوى أحد الجيران بصورة سيئة وعنصرية! أسلوب يضع السكان الأجانب في ضغط نفسي تنتج عنه أفعال غير متزنة، وفي النهاية بالتعايش ومع مرور الزمن وجدت تأقلماً كبيراً من الأجانب مع قواعد الحياة في الجميلة المتوحشة (إسطنبول).
وأيضاً من بين الحالات التي قمت بتوثيقها حالة الشاب المصري محمود حامد (38 عاماً – متزوج ولديه ثلاثة أطفال) التي استغرقت فترة بحثه عن شقة أكثر من شهر ونصف، بحيث يخرج من مكتب إلى آخر، ويجد نفس الإجابة برفض المالك كون المستأجر أجنبياً.
وفي إحدى المرات خرج عن صمته منفعلاً في وجه السمسار وصاحب الشقة باللهجة المصرية (هو اليابانجي -الأجنبي- ده كافر أنا عايز أفهم؟ كافر علشان تسمعونا الكلام ده فهمونا يا جماعة؟)، وبرغم عدم فهمهم الكلمات الغاضبة فإنهم توقعوا المقصد قبل أن يتأكدوا من صحة توقعهم بترجمة ما قاله محمود، وكانت لهذه الجملة الفضل في أن يبذل السمسار مجهوداً أكبر لإقناع المالك الذي تراجع عن موقفه، ووقّع العقد وحصل محمود على سكن يعيش فيه.
وهنا يأتي سؤال: كيف والأجانب يمثلون ميزة ستدفع من دون نقاش ما يقرره الوسيط من سمسرة وإيجار وتأمين تتزايد وتيرة الكلمة المنفية التي تتساقط كلماتها كالحُمم البركانية على قلب الأجنبي (yabanci yok)!
هل تغيّرت النظرة بعد وضع قواعد الأسعار الجديدة واستقرارها عند حد أدنى لا تنزل عنه بسبب زيادة الطلب، وبالتالي فإن الأجانب مثّلوا مرحلة لتحقيق استفادة ثم عدم الاعتداد بهم أو إجبارهم على قبول سكن بأسعار فلكية تُمثل مرحلة أخرى من مراحل استنزافهم اقتصادياً؟
في النهاية.. لا أعتقد أن الأجانب يفضّلون تحميل أنفسهم أعباء اقتصادية مرتفعة، خصوصاً أن أوضاعهم الاقتصادية غير مستقرة، وينحازون بقانون الطبيعة للأسعار المقبولة والمنخفضة، ولكنهم في نفس الوقت إن لم يجدوا ما يتمنون يصبحون بلا خيارات ويقبلون بالموجود من أجل تحقيق حق أساسي لهم ولأسرهم بالسكن.
نحترم قيم المجتمع الذي نعيش فيه، وإن كان من اختلافات في أنماط الحياة مرتبطة باختلاف مجتمعاتنا، فإننا نتفادى ما يُوقع أي ضرر على غيرنا، وبالتأكيد نشعر بالحزن العميق من كلمات، وإن كانت من غير قصد قائلها لا تخرج عن إطار العنصرية والتفرقة القائمة على العرقية والموطن.
فلسفة التعارف لا يملك أحد ضمانة أن يكون كل مَن يتعرف عليه جيداً أو العكس، فالحكمة من التعارف وبناء العلاقات هي التعلم ومعرفة البشر من الجيد ومن السيئ، هذه القاعدة تحكم كافة علاقاتنا بغضّ النظر عن مشتركات تجمعنا وإن كان لها عامل في ذلك، ولكنه ليس بالكبير.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.