الحياة على ظهر دراجة..

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/01 الساعة 10:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/02 الساعة 07:46 بتوقيت غرينتش
Full length of handsome young businessman looking forward while riding on his bicycle

(1)

التقيت رئيسي الحالي في العمل، لأول مرة، قبل 15 شهراً من الآن. أذكر يومها أني انتظرت الرجل أمام مكتبه؛ بسبب قدومي مبكراً قبل أن تصل سكرتيرته، لأُفاجأ بعد بضع دقائق بشاب (بدا لي أربعينياً)، يرتدي طاقم درَّاج رياضي وخوذة رأس، يدلف إلى ممر الطابق المخصص لرؤساء الأقسام، حيث أنتظر، وهو يجر إلى جواره دراجة رياضية.

صافحني الرجل وطلب مني الانتظار دقائق ريثما يغيِّر ملابسه، ثم استقللنا السلالم بعدها إلى غرفة الاجتماعات بالطابق الخامس. بوصولنا إلى الطابق الرابع، لاحظ الرجل تلاحُق أنفاسي؛ بسبب بدانتي، فابتسم وقال معزياً: لقد وصلنا تقريباً!

بعد شهور قليلة، احتفل الرجل بعيد ميلاده الخمسين، هنّأناه وأحضرنا له هدية بروتوكولية جماعية، وتمنّى لنا هو في المقابل "حياة صحية".

قبلها بأيام -ولأني كنت في رحلة المفاضلة بين بعض عروض العمل- سألني بروفيسور جامعي يرأس أحد أقسام الباطنة التخصصية في إحدى كبرى الجامعات الألمانية، حين جلست في مكتبه: كيف كانت رحلتك إلى هنا؟

الرجل الذي ألقى السؤال التقليدي بأناقة ولكْنة جنوبية واضحة، تليقان بأحد مبرزي مجاله، أجابني وهو يتراجع في مقعده الوثير بأنه لا يحب قيادة السيارات لهذه المسافات الطويلة (600 كم كنت قد قطعتها إليه)، وأنه يفضل القطار؛ لأنه يُبقيه متحركاً عكس السكون الكريه الذي تسببه السيارة للجسم!

أجبته وأنا أبتسم محاولاً الولوج إلى المحادثة التي بدأها بأنني صديق حميم للسيارات، فبادلني الرجل بالابتسام وهو يتطلع إلى جسدي المترهل دون أن يعلق وإن أخبرتني نظراته بكلماته التي منعتها حدود اللياقة غالباً!

أدركت بعدها أن الأمر أكبر من مجرد البدانة البريئة في مقابل الرياضيين الأوغاد، ففي كل موقف كان يتم تناول الأمر فيه كان أغلب مَن حولي ينحازون إلى الحركة والنشاط مقابل اختياري (الدائم) للسكون والدعة.

كنت أدلف يوماً إلى الاجتماع الأسبوعي لمناقشة حالات السرطان الرئوي، حين رأيت كبير الاستشاريين الودود والذي أسمِّيه "الجد"؛ لهدوئه وحكمته وسنّه الكبيرة.. أقبل الرجل نحوي في زي رياضي كامل، يحمل في يده خوذة قيادة الدراجة، داعبته قائلاً:

– الجد لا يزال يقود الدراجة!

أجابني: الجد لا يقود إلا الدراجة.

ثم أضاف وهو يبتسم مشيراً إلى معرفته باختياري الدائم للسكون مقابل الحركة: ألا يرغب الدب الشاب في تقليد الأرنب العجوز.

و"الأرنب العجوز" مصطلح يعبّر به الألمان عن الشيوخ ذوي الحكمة الذين عركتهم التجارب.

ثم أضاف وهو يقدّم باعتذار ألماني تقليدي أنه لا يبغي أبداً مضايقتي أو التدخل في شؤوني الخاصة، أن عليّ أن أعيد النظر في اختياري الدائم النشاطات قليلة الحركة وتنامي البدانة لديَّ، والذي يراه هو "أسوأ هدية لعائلتك!".

قاطعته: المشكلة أني مدمن سيارات!

فأجابني بسرعة: والإدمان يؤدي غالباً إلى الوفاة.

ابتسم لي ودفع باب الغرفة لنلحق بالمجتمعين هناك.

(2)

قبل أكثر من 20 عاماً، لم أكن على حالتي هذه مع السكون، اعتدت كل يوم أن أقود دراجتي حتى "المعهد الأزهري" الذي درست فيه بفترتي الابتدائية والإعدادية. استمر الوضع هكذا حتى نهاية فترة الثانوية، ثم انتهى تماماً بالتحاقي بالجامعة في القاهرة لدراسة الطب. سنوات الدراسة الطويلة، والامتحانات التي لا تنتهي ثم فترة النشاط السياسي بدءاً من 2005، كل هذا أنساني دراجتي وقادني إلى حالة أكثر سكوناً.. وبدانة.

لديَّ صديق كولومبي يساري مخلص لمبادئه الثورية، مهووس بالتحليل الطبقي للظواهر والأشياء، كان يرى السيارات إحدى كبرى سلبيات الرأسمالية المعاصرة. كنت أضحك من كلماته التي يلقيها بألمانية مكسَّرة تبدو كالإسبانية، ويختفي منها حرف الـW تماماً، لكنني اليوم أجد لها منطقاً وأزعم أنها لا تخلو من حجة!

كان يعتقد أن السيارة تمثل صورة نموذجية لتطبيقات رأس المال التي تحمل سلبيات كثيرة تختفي وراء بعض الإيجابيات.

المال مقابل الخدمة، كلما كثر المال زادت رفاهية الخدمة. الجلوس كثيراً والعمل قليلاً، لكن الربح كثير (كان يقصد أن الدفعة البسيطة لدوَّاسة البنزين تحرِّك السيارة وتصل إلى هدفك بأقل مجهود)، وكان يرى من وراء ذلك وجهاً فلسفياً عملياً للرأسمالية، هكذا كان يعتقد! كان كذلك يرى أن الدراجة تناسبه بطريقة عملها وقيادتها كيساري مخلص لأفكاره!

والحقيقة أنني بعد 4 سنين من سماع أفكاره للمرة الأولى، أجدني متفقاً معه تماماً في هذه الرؤية. وها أنا ذا، اليوم، بعد أن كنت أجادله في شقته المقابلة لسكني القديم ذاك الحين، أُقر أمام نفسي بفكرته هذه بعد أن تحققت نبوءته لي:

هذه الرأسمالية ممثلة في فلسفة السكون والدعة مقابل المال سوف تقودك إلى المرض يوماً ما، لا أتمناه بالطبع، لكني أتوقعه للأسف.

(٣)

الحركة على ظهر الدراجة ممتعة للغاية!

أنت تواجه الهواء الطلق بدلاً من الاختباء وراء زجاج السيارة أو الانشغال بمقود السيارة وإشارات الطريق!

العالم يتحرك من حولك وقد يلامسك، البشر يبدون لك طبيعيين بأصواتهم وألوانهم دون حواجز. يمكنك أن تسمعهم، تكلمهم، أو حتى تسلم عليهم دون تعقيدات عالم السيارة، التي لا تقف قبل عشرات التحضيرات.

الدراجة تنتزعك فعلاً من العزل الاصطناعي الذي تفرضه عليك السيارة، تنتزعك من السآمة والملل اللذين يوشكان على قتلك خلف المقود. حتى الكدمات والرضوض الناشئة عن الحوادث -لا قدر الله- تكون (في الأغلب) بسيطة وسطحية.

المثير في الأمر أن الكثيرين أخبروني بأنهم على ظهر الدراجة اكتشفوا بالقرب منهم عوالم وأحياء وأناساً لم يكونوا ليصلوا إليهم أبداً خلف مقود السيارة!

لم أكن لأصدق هذا واعتبرته مبالغات (الدرَّاجين)، لكنني تأكدت من هذا الأمر بعد أن اكتشفت بجوار بيتي الذي أسكنه منذ أكثر من عام، طريقاً ممهداً وسط غابة خضراء تصل بين حيِّنا والحي الذي يليه غرب المدينة. في طريقي لهذه الغابة، اكتشفت جيراناً ومحال وتجمعات للعب الكرة والجري والتريض وركوب الخيل، لم أكن يوماً لأحلم بها.

فقط، كانت تفصلني عن هذه الأشياء "سيارة"، ليس مسموحاً لها بدخول هذا الطريق. فيما بعد اكتشفت درَّاجين يشاركونني الطريق، وتعرفت إلى عالم جديد من المترجِّلين والمتريضين. بالتأكيد، فإن هذا العالم يبدو أجمل بكثير من المرآب الذي اعتدت ترك سيارتي فيه.

(4)

على الرغم من دخولي الاجتماع الصباحي متأخراً دقائق، فإنني كنت أحس بنشاط حقيقي.

آثرت بسبب ضيق الوقت، أن أذهب مباشرة للاجتماع وليس كما هو معتاد لتغيير ملابسي أولاً. حين دخلت الاجتماع أحمل حقيبة الظهر، لم أكن أدري أنها المرة الأولى التي يراني فيها الزملاء أحمل خوذة قيادة الدراجة بعد إذ نزعتها من رأسي.

لم أدرك بسهولة، سر الابتسامات المتتالية الموجَّهة إليَّ، حتى رفع طبيبي المعالج "وزميلي في المشفي نفسه" إبهامه الأيمن لي، مشيراً بعلامة الاعجاب: أحسنت!

حتى الجد، كبير الاستشاريين، الهادئ دائماً، تحدث من مقعده في نهاية الغرفة بلهجة هادئة وابتسامة عريضة تملأ محياه قائلاً: الأرنب العجوز يحيي الدب على النشاط الجديد.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
دسوقي أحمد
طبيب مصري مقيم بألمانيا
تحميل المزيد