-1-
ظلام شاشة السينما يضيء شيئا فشيئا، نغمات موسيقى الجاز الفرنسية الناعمة تبدأ في الظهور ومعها مشاهد من حدائق وشوارع باريس، بدون مؤثرات بصرية وبدون معالجات للألوان، فقط أناس عاديون يتجولون سيرا على الأقدام أو يمارسون العدو الخفيف، سماء زرقاء والكثير من الخُضرة صباحا، شوارع هادئة وإضاءة ذهبية خافتة مساءً، كل شيء يبدو جميلا جدًا وهادئًا جدًا، أنت تشعر بالحنين لهذه اللقطات حتى وأنت تشاهدها لأول مرة، خصوصا تلك اللقطة لباريس تحت المطر. يا الله، أشعر بقطرات الماء على وجهي، هل يعرف من صور هذه اللقطات كم أحب المطر، هل يعلم كيف كنت أجري تحت المطر حينما كنت صغيرًا لأركل قطرات الماء قبل أن تصل إلى الأرض!
تظلم الشاشة مرة أخرى وتتوالى أسماء صناع الفيلم في الظهور قبل بدايته.
يبدأ حوار بين شاب وفتاة لم أرهما بعد، وتستمر الأسماء في الظهور على خلفية سوداء.
– هل تتخيلين كم ستكون هذه المدينة جميلة بشكل مميت وساحرة بشكل لا يُصدق تحت المطر؟
– لماذا يجب أن أتخيل أى مدينة في المطر، ما الجميل في أن تبتل بأي حال؟!
هذا الحوار هو ما كنت أفكر فيه بالضبط في هذه اللحظة، ورد تلك الفتاة هو ما توقعته من بنات هذه الأيام، من هذا الذي يكتبني، من العبقري الذي صنع هذا الفيلم؟
-2-
أثناء مراجعتي للأفلام التي شاهدتها خلال الأربع سنين الماضية اكتشفت أني وعقب مشاهدة هذا الفيلم – منتصف الليل في باريس، إنتاج 2011 – قد بحثت عن كل أفلام وودي ألن التي استطعت أن أصل إليها وشاهدتها، فقط لأعرف هل أنا أحب باريس أم أنني أحب أي مدينة حينما تُقدم على طريقة "وودي ألن"!
بالطبع وودي لا يفعل هذا وفقط، وودي كان يحدثنا بلا كلمات هنا عن الفكرة التي سيصحبنا لمعاينتها طوال الفيلم في رحلة داخل عقله، هذه الفكرة هنا هي "الحنين للماضي"، "النوستالجيا" أقصد، وكأنه في الافتتاحية يخبرنا بأن تلك المشاهد الباريسية ستكون نوستالجيا المستقبل، رغم أنها في زمننا الآن، الزمن الذي نراه سيئا ولا نعيشه ونحن لما قبله.
من لا يحبونه ويحاولون أن يكونوا منصفين لا يستطيعون مثلا إنكار عظمة كادراته بالأبيض والأسود في "مانهاتن، إنتاج 1979″، أحد الأفلام التي جعلت منه أيقونة لمدينة نيويورك، وودي يجعلك تحب شوارع تلك المدينة وضواحيها كأنك أحد مواليدها، ثم يحدثك أن الشيء الأكثر إثارة للجدل في حياة البشر، العلاقات العاطفية.
في "مانهاتن" ستصاحبك كلمات وودي في رحلة البحث عن العلاقة المناسبة، من منهن يجب أن تحبها، وفي النهاية لن تجد إجابة وهذا هو الرائع بشكل خاص فيما يقدمه.
وفي تحفته الفنية "أني هال، إنتاج 1977" سيسير معك خطوة بخطوة في العلاقة التي تظن أنها مناسبة وجيدة وجميلة للغاية، الحب الذي حتى بعدما سينتهي ستظل تتذكره بشكل جيد.
-3-
رشح وودي ألن لجائزة الأوسكار أكثر من 26 مرة، فاز بـ 4 منها في فئة الإخراج والكتابة، تلك الجائزة التي يبكي أعظم صانعي الأفلام للحصول عليها حصل وودي عليها أربع مرات، ولم يظهر لاستلام أي منها!
"أنا أرفض فكرة الجائزة من الأساس، هي تقوم على التفضيل، هم يحكمون أن هذا الفيلم هو المفضل بالنسبة لهم، هذا لا يعني أنه الأفضل، أنا لا أقبل هذا، ولو قبلته في هذا العام لأنهم يرون أن هذا الفيلم أحد أفلامي فعليّ أن أقبله في أعوام أخرى حين لا يفضلوا أيَّا من أفلامي الأخرى، أنا أصنع الأفلام للجمهور ولنفسي لتشغلني عن العالم بكل ما فيه من بؤس ولا يهمني أيّ من تلك الجوائز"، هل تتخيل معي ما قاله هذا الرجل!
تلقى الممثلون في أفلام وودي ألن أكثر من 18 ترشيحًا لنيل جوائز الأوسكار، فاز بها سبعة منهم، آخرها كانت من نصيب "كات بلانشيت" عن دورها في "بلو جاسمين".
كونه كتب وأخرج هذه الأدوار، خلقها بمعنى آخر، فمن الطبيعي القول إن هؤلاء الممثلين يدينون بجزء عظيم من هذا التقدير لوودي. 7 جوائز لأدوار خلقها وودي تجعل أمامه اسمين فقط، "إيليا كازان" و"ويليام وايلر".
في حفل الأوسكار عام 2002 وبعد أشهر قليلة من أحداث سيبتمبر التي استهدفت مدينة نيويورك، خرجت ووبي جولدبرج لتتحدث عن تلك المدينة التي لطالما أحبتها الأفلام، المدينة المليئة بملايين الحكايات، ثم قالت بتأثر شديد:
"اليوم معنا رمز لمدينة نيويورك وأيقونة لصناعة السينما، هذا الفنان وبمسافة بعيدة عن الأخرين قد خلق برؤيتة الخاصة لهذه لمدينة صورة شاركها العالم ببهجة، هذا الفنان قد أتى به حبه وحبه وفقط لنيويورك إلى هنا الليلة، السيدات والسادة إنه لشرف عظيم أن أقدم لكم، وودي ألن".
وقف حضور الحفل من أعظم صناع السينما في العالم ليصفقوا للأسطورة، وخرج وودي بمشيته المعتاده، يجر رجله ويمسح وجهة، هو كما هو، بجمله الطويلة غير المكتملة، وتردده الدائم، وتشاؤمه الذي يخفيه بإطلاق النكات، ظهر وتكلم، وقدم "رسالة حب" إلى مدينته، لم يظهر قبلها في حفلات الأكاديمية، ولم يظهر بعدها حتى اليوم.
-4-
في معظم مقابلاته يظهر على وودي ألن التشائم الشديد كما يبدو أنه لا يقدر نفسه كما يجب، يتحدث دائما أنه في مرتبة أقل من سكورسيزي وسيدني لوميت وآخرين، يصرح دائمًا بأن مثله الأعلى كان "بيرجمان" وأنه ربما لم يكن بالشجاعه الكافية ليقدم الإطار "الدرامي" الذي تمنى أن يقدمه، يصرح دائما بأنه استسهل الكوميديا وإطلاق النكات لأن هذا سيعجب الناس أكثر، وأسهل.
ولكني أختلف مع هذا، أنا أجد وودي ألن صانع سينما عظيم، أعشق اختيارك للموسيقى ولقطاتك البعيدة للشوارع والبيوت يا سيد ألن، تساؤلاتك حول ماهية الحياة والموت والسعادة والشقاء شكلت تفكيري في مرحلةٍ ما، ترددك وتلعثمك يمثلني، أحاديثك عن العلاقات العاطفية كانت بمثابة حديث مفتوح مع الذات، إن كانت السينما تمنحنا حيوات أخرى لنعيشها فقد عشت الكثير منها بفضل أفلامك يا سيدي.
هل بكيت يوما ما؟
"انا أبكي في السينما طوال الوقت، داخل دار السينما أقصد، لا استطيع أن أبكي في حياتي العادية ولا عندما أقوم بتمثيل أحد الأدوار، في فيلم "هانا وأخواتها" حاولوا جعلي أبكي بمشهد بكاء ولكنهم فشلوا حتى بعد أن وضعوا شيئا في عيني، ولكني عندما أشاهد نهاية "أضواء المدينة" لشارلي شابلن، فإنني أبكي دون أن أشعر".
– وودي ألن
-5-
أخرج وودي ألن ما يزيد عن الخمسين فيلما، وكتب ما يزيد عن السبعين. بالطبع لم أشاهدهم كلهم ولا أعلم إن كنت سأفعل في يومٍ ما، ولكني سعيد أنني حضرته حيا، وأتمنى أن يستمر هذا العجوز في صناعة السينما، فأنا ما أزال أصدق أنه يمكنه أن يكتبني، ولا أزال أفتح عيني كل يوم على صورته على حائط غرفتي.
وكما يقول صديقي العارف بالحياة، "مش ضروري الناس تغيب لاجل ما نعرف قيمتهم".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.