حينٌ من الدهر

تجلس يملؤك الأسى من بعدهم، فماذا عني وأنا لم أرَهم مذ عرفتهم إلا حزناً قد كسر ملامحهم، ألم الفقد وكأني خلقت لأراقب الناس في حزنهم.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/28 الساعة 03:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/28 الساعة 03:41 بتوقيت غرينتش

في عالمي الآخر، هناك أجلس منفرداً، أشعر بالوحدة مذ أتيت، ذهبوا وذهبت ابتهالاتهم الباكية حال صدمت الرحيل، سمعت دبيب أقدامهم يتلاشى، حتى مضى زمن كلما سمعت ذلك الدبيب طِرت فرحاً علهم أحبابي، ولكن هيهات إنه دبيب وافد جديد، ومعه أهله.. لو علم أن هذه هي المرة الأخيرة التي يأتونه فيها لأوصى ألا يأتوه من البداية.

وطأ الوافد مقبرتي، سمع دبيب أقدامهم تتناثر، بدا على وجهه الخوف، كان يطمئنه نحيب الأبناء وصياح الأصدقاء، ثم بدأ الدبيب يقلّ شيئاً فشيئاً، وأصوات البكاء تقل، تلاشت إلا من عزيز جلس يبكي بكاء صبيّ أرقته مرارة الفراق.. رأيته والخوف مرسوماً على وجهه، المسكين بدا خائفاً يطمئن نفسه قائلاً: كلا سيشتاقون ويعودون قريباً.

عاد صوت البكاء من جديد، الدعوات تنهال علينا من كل حدب وصوب، هناك صوت مألوف يقرأ الفاتحة.. من هذا؟ إنه ابني البار قد عاد ليدعو لي، أشعر به، روحي تكاد تحتضنه.. ولكن ما هذا؟ إنه يحفر فوق قبري، لقد دفعه الحب أولاً والشوق ثانياً رغبة في عناقي.. صوت خرير الماء بدأ يتدفق من الحفرة، يا بني أنا لا أريد ماءً.. فقط أريدك أن تبقى أو إن رحلت لا تألف البعد.

عندما جئتموني، وددت احتضانكم من لوعتي، أفتقدكم كثيراً، لماذا تزرعون "الصبار" خاصةً؟ هل يزيح شعور الوحدة عنّي فيمدني بالصبر كي أتحمل فراقكم؟ هل عقدتم النية ألا تعودوا قريباً فأتيتم بهذا الشيء؟ ولكن هيهات هم في حالهم يزرعون وأنا هنا أتساءل.

مر زمن طويل، كان كافياً للإجابة عن تساؤلاتي، قد زرعوا الصبار ورحلوا؛ لأنه الشيء الوحيد الذي يقوى على فراقهم أعواماً ولا يشتاق لهم.. ألا ليتني صبارة أقوى على تحمل بُعدهم، وكأنهم ماء في حضرتي يسبح بعيداً في مشاغله لريّ ما هو أحق منّي في الحياة.

أحبابي.. أنا لست صبارة تتحمل بُعد الماء عنها، أنا ميت أحببتموه يوماً وقد أخلص في حبكم، لمَ تركتموني والتراب وحدنا؟ هل نسيتم أم تناسيتم أم أن للأحياء أولوية الاهتمام؟ هل كان حبكم لي نفاقاً؟ تضحكون لي وتهتمون بي لأني أراكم؟ ومَن يدرك منكم أني أعلم خبره فسيأتي إليَّ مهرولاً.

في عالم الأحياء كنت أسمع أن مَن فات مات ولكن الحقيقة أنه مَن مات فات، مَن وطئ الثرى انشغل عنه الأحياء، انشغل عنه مَن كان يزعم يوماً أنه الحبيب الأوحد، هل ما زِلتم تتذكرون كلماتي وضحكاتي، أم أنه أتى من بعدي مَن ملأ دنياكم فتلاشت خيالاتي من أذهانكم؟! هل كان موتي آخر عهدي بكم، فرحلت من دنياكم بلا رجعه ولو بتذكّري؟!

لو تعلمون أن كل مَن تعرفون وكل ما تجمعون لا يغنون عنكم لحظةً في البعد المخيف، لو تعلمون أنه سيأتي يوم لن يذكركم ذاكر ولن يشكركم شاكر.. عندما تكونون ذكرى في أذهان الغادين، وصورة تذكارية معلقة في إحدى زوايا المنزل يعلوها وشاح أسود باهت.. عندما تكونون اللاشيء عند الحفيد الذي لم يعرف عنكم سوى اسم مدرج في بطاقته يسبقه قبل اسمه اسم أو اسمان! لو تعلمون أن كل هذه البهرجة والتزيّن ما هو إلا زيف زائل وسينسى يوماً لمَ فعلتم شيئاً في أي شيء أيها الأحياء المساكين؟

تجلس يملؤك الأسى من بعدهم، فماذا عني وأنا لم أرَهم مذ عرفتهم إلا حزناً قد كسر ملامحهم، ألم الفقد وكأني خلقت لأراقب الناس في حزنهم.

في قواميسكم مَن مات فات، بنيت الصخور، وربيت الفحول، وقطعت الأميال من أجل هذا الموعد حيث الغربة والوحدة الموحشة.. تأتوني كل عام لتسقوا لي صديقتي الصبارة التي لم تملّ من وحدتها، شكراً صديقتي الصبارة تحملتِ أقاصي بعد المياه عنك، وتقبلتِ الواقع بصدر رحب.. تحملتِ ما لا أطيق، ربما لأنكِ تعودتِ على هذا، لكني في العيش كنت عزيزاً مدللاً هم كانوا كالماء الذي يرويني، ولكنه ابتعد وانقطع، ألا ليتهم يعلمون أنني أحتاج ابتهالاتهم في كل ثانية تمر من أعمارهم، فحينها تنساب قطرات الماء على صبارتي فتروى وتحييني إلى حين لقاء.

هل تدركين أيتها الصبارة الصابرة أن الميت يستأنس بذكر الحي له، يشعر به كلما أتاه زائراً أو ذاكراً، لكن المؤسف أن الأحياء لا يبالون، اعتقدوا أن مَن مات تحوّل إلى تراب فانتهى أمره وخبره وفات، وكأن الروح لا مكان لها في حياتنا، واتخذوا البُعد والنسيان سبيلاً.

قالت الصبارة لي مواسيةً بنبرة مليئة بالألم ورثت تلك المهمة المريرة أباً عن جد، وقد كشفت لي فترة مكوثي عن تساؤلات سكنت هاجسي زمناً طويلاً.. تجلس منفرداً ولكنك لا ترى ما أراه، أرى الفتيان في أعمار الصبا يترجلون المقابر خائفين مترقبين تعلو وجوههم الدهشة عن شخص كان منذ ساعات يجلس بينهم، يكبرون شيئاً فشيئاً ولا أراهم إلا وقد تغيرت ملامحهم حزناً على فراق مَن يودعونه بجواري، وأراهم ثانيةً في فقدان آخر أو في زيارة بعد زمن قد غيّر بعضاً من ملامحهم، حتى تأخذهم الدنيا في تيه دروبها ثم يأتون إلينا ساكنين فيصحبون الصبار أبد الدهر.

تجلس يملؤك الأسى من بعدهم! فماذا عنّي وأنا لم أرهم مذ عرفتهم إلا حزناً قد كسر ملامحهم، ألم الفقد وكأني خلقت لأراقب الناس في حزنهم وأصطحبهم بعد انتهاء أعمارهم! أراقبهم وهم في دنياهم غارقين، متناسين أن البقاء في ذلك العالم لا أمل فيه، فلا خلود لكائن حي، متناسين أنهم سيأتون رغماً عنهم فلا تبتئس بما يفعلون.. ستلتقي وأحبابك عن قريب، وعندما يأتون سيشعرون أنهم قد فارقوك ساعةً من نهار، فاشدد أزرهم ولا تُكثر من عتابهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد