يا حبيبي كيف لم تدرك من قبل روعة ما كان بيننا، كيف أصابك الضجر؟ وكيف لم تستشعر أبداً جمال الأمسيات التي جمعتنا؟ كانت عادية؟ نعم، كيف لم تدرك أن الجمال العادي يفوق في أحيان كثيرة جمال ما قد نعتقد أنه جميل لكونه استثنائياً أو مر في لحظة عابرة.
سأحكي لك عن الأشياء الجميلة التي أفتقدها في أمسيات كانت عادية للغاية. عادية حد الرتابة حتى إنها مرت ولم ندرك حينها أنها كانت من أجمل هدايا القدر، سأحكي لك عن الأمسيات التي جمعتنا، الأريكة التي استلقينا عليها، الستائر التي تلاعبت بالنسيم، تلك الحديقة الصغيرة، الزهور التي لم تكن تنتمي إلينا، بل إلى جارتنا السورية المهووسة بالنباتات والأرجيلة، حتى تلك الزهور التي لم تكن لنا كانت تزين أيامنا رغماً عنا، شاشة التلفاز التي كنا نتسمَّر أمامها بشغف لنشاهد أفلاماً واحداً تلو الآخر دون ملل.
تلك النهارات التي قضيتها في المطبخ أطهو لك وللصغار وجباتكم المفضلة، فنجان القهوة الذي كنا نحتسيه معاً، شكواك المتكررة من مشاكل العمل، وكلماتي المكررة التي كنت تكرهها، التي كنت أسكبها بلا روح كي أمنحك قليلاً من الصبر. نهايات الأسبوع التي خصصناها لخروجات الصغار، مدن الملاهي التي كنت تختارها بعناية لتمنحهم أوقاتاً سعيدة، العربات الكهربائية التي ركبناها معهم، نهارات الشراء التي لا تنتهي، القطع الصغيرة الملونة التي كنت تنثرها في أركان البيت فتخلق فرقاً، الإضاءات الخافتة، والمسافة التي كنت تحرص على وجودها بين الأريكة والجدار، المكتب الزجاجي المزركش بنقوش بيضاء، اكتشفت مؤخراً أن تلك النقوش كانت كلمة أحبك بكل اللغات، منقوشة بعناية فوق زجاج المكتب السميك والقاسي، الأغنيات التي كانت تنساب في كل مساء لتختم نهارات العمل المتعبة بسلوى النغمات الجميلة.
هل تعلم يا حبيبي أن عصفوراً كان يمرق كل مساء ماراً أمام شرفتنا صوب نافورة الماء الصغيرة، يحتسي الماء برقة بالغة، يودع النهار في باحتنا، ويلف في جناحه الصغير ضوء النهار ويرحل، كيف لم نلتفت إليه وهو يمر يوماً بعد يوم، كيف لم ندرك أن جنة كانت حولنا إلا بعدما رحلت هذه الجنة، أو بعدما رحلنا عنها.
كيف لم نعلم أن جلستنا كلٌّ منكب على حاسوبه يعمل، أو على كتابه يقرأ هي من علامات النعيم، طالما اجتمعنا معاً، كيف نسينا أن نحفظ في قلوبنا كل الكتب التي قرأناها وتناقشنا حولها، وكل الأفلام التي ألهمتنا، ما زلت أحلم بتنورة زرقاء تشبه تنورة إحدى الممثلات التي لم أعد أتذكر اسمها. صارت ذاكرتي تخونني، وهذا ما يؤلمني حقاً، لأن كل تلك الأيام الجميلة التي لم ننتبه حقاً لجمالها في حينها ستمحى للأبد، لكنني ما زلت أذكر ولعك بتشارليز ثيرون، وثناءك على رقبتها الجميلة، وصوتها المثير، لأنني أتذكر جيداً أنني كنت بريئة أكثر مما ينبغي، فلم أشبه أبداً نجماتك المفضلات.
كيف يا عزيزي لم نكن سعداء حين امتلكنا كل أسباب السعادة، أنا غاضبة منك جداً، فكيف تتركني وحدي الآن ألوك حسرتي على ما خسرناه، كلما مرت السعادة بخاطري مررت كشبح، كصورة باهتة عما مضى، كيف تتركني وحدي أتجرع مرارة الفقد، هل تصرّ أن تغيظني مرة أخرى، لعلها واحدة من نكاتك السخيفة، لعلك تضحك عليَّ الآن وأنت ترى حسرتي وحيرتي، لعلك تتصور أنك أتقنت مقلباً محبوكاً بمهارة كعادتك في الأيام الغادرة، لعلك لا تشفق على دموعي التي صارت حاضرة في أي وقت كالنساء العجائز.
هل تعلم أن كل شيء كان قد انتهى تماماً في اللحظة التي كنت قد اعتدت فيها على حياتنا الرتيبة، بل إنني كنت قد أحببتها. لم أكن لألومك مرة جديدة على برودة مشاعرك تجاهي، ولم أكن لأتساءل مرة جديدة عن الشغف الذي كان في الأيام الأولى وأين ذهب، كنت قد تصالحت مع كل الأشياء العادية والرتيبة وأحببت الملل، فلماذا في هذه اللحظة ذاتها ينتهي كل شيء، تنتهي الرتابة والأيام العادية وينتهي الملل، كيف لم ندرك حينها أن كل ذلك كان جميلاً بذاته، كان أجمل من كل قصائد الوله والاشتياق، وكان ملوناً أكثر من كل لوحات الفنانين، وكان يبدو كأغنية حتى ولو لم تغنَّ، يا حبيبي ما بيننا كان عادياً حقاً، لكنه كان جميلاً ورائعاً أكثر من السماء ذاتها، المؤلم حقاً أنه انتهى.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.