يتناول فيلم الكيت كات الذي أخرجه وكتبه داود عبد السيد في مطلع التسعينات عن رواية مالك الحزين لإبراهيم أصلان، قصة الشيخ حسني، ذلك الرجل الكفيف المقيم في حي الكيت كات بإمبابة في القاهرة، ذلك الرجل الذي فقد زوجته ونظره وترك عمله ويعيش حياته مع أمه العجوز وابنه الشاب، وهو يدمن الحشيش، ذلك المخدر الذي كلفه بيته الذي ورثه عن أبيه ولا توجد للشيخ حسني مهمة في الحياة غير تتبع يوميات أبناء حيه والإحاطة بمشاكلهم.
ولكن تكمن عبقرية الفيلم في أنه يجعل من الكيت كات نموذجاً شاملاً للمجتمع المصري بكل طوائفة، ويقدم لنا الواقع بكل تناقضاته، يقدم لنا أفراحة وأوجاعه يقدم يأسه وأمله.
يمثل الشيخ حسني في الفيلم حالة فريدة، فهو ليس رجلاً مثالياً أو عبقرياً أو حتى شاعراً، ولكنه رجل حالم أو كما يقول في آخر الفيلم "يركب حصان خياله". فحسني يختلف مع كل شخصيات الفيلم، فهو يسعى إلى تحقيق ما يطمح إليه ويقاوم من أجل أحلامه، حتى وإن كان هذا غير منطقي بالنسبة للآخرين، فهو يرفض أن يكون الضرير الذي يريده الناس، فهو يعرف أنه كفيف، ولكنه يرفض أن يتم التعامل معه كونه عاجزاً، وتجد جملته "أنا مابحبش حد يستعماني".. تلك الجملة الساخرة الساحرة التي تتناقض مع مفهومنا للعمى ومفهوم الشيخ حسني لفقدان حاسة البصر، فهو يدرك أنه لا يرى، ولكنه يعطي لنفسه الأمل والتفاؤل ويمزجهم بالسخرية من نفسه، ومن المجتمع فتراه يقول "أنا بشوف في الضلمة والنور".
هو يعرف أن نظره لن يعود، ولكنه لن يستسلم للعجز، بل يقاوم ويتهكم، يسخر من عجزه ومن المصدقين والمستسلمين لعجزهم، فنراه يقول للشيخ عبيد الضرير، الذي قابله في الطريق وطلب منه العون "إذا ماكنش سليم النظر اللي زي حالاتي يساعد عاجز النظر اللي زيك لا مؤاخذة يعني يبقي قول علي الدنيا السلام" في سخرية من اعتماد عبيد على حسني لعبوره الطريق.
وتجد حسني مع كل عيوبه ومشاكله وحتى تعاطيه للحشيش، إلا أنه لم يستسلم لليأس أو الخنوع، لم يخشَ الواقع، بل يواجهه، على عكس شخصيات أخرى مثل ابنه يوسف الشاب الجامعي العاطل، الذي لم يجد فرصة للعمل في مصر وضاقت به الدنيا وفشلت محاولته للهجرة لعدم وجود مال كافٍ فيتجه يوسف لليأس والإحباط مع أنه سليم الجسد معافى في مقتبل العمر.
ونجد أيضاً روايح زوجة سليمان الصائغ المصاب بالضعف الجنسي، فكان موقفها من تلك المشكلة الاستسلام، فهي لا تقرر الوقوف مع زوجها في محنته أو حتى طلب الطلاق، ولكنها تستسلم للواقع وتقرر خيانه زوجها فهي تخشى المواجه واتخاذ قرار.
فقد مثل حسني نموذجاً متميزاً فهو وإن كان ضرير النظر، ولكنه يسعى للتغلب على عجزه ومواجهته، فحسني الضرير لم يتحرج من أن يدخل قاعة سينما ويشاهد فيلماً وهو يعلم سخرية الناس منه، بل الأكثر سخرية هو سخرية حسني وطلبه من الناس خفض رؤوسهم حتى يشاهد الفيلم!
وتمثلت قمة صراع حسني مع المجتمع أو مع القالب الذي يريد المجتمع حبسه بداخله، في مشهد قيادته للموتوسيكل فهو كما قال (بابقى عايز حاجة واحدة بس أسوق موتوسيكل وأطير بيه). هو لم يجرم، ولكنه حقق حلماً كان يطمح بيه.. وإن ظنه الآخرون مجنوناً فهو لا يعبأ.
حسني ليس ثورياً أو أحمق، ولكنه رافض وساخر، يرفض ما يمليه عليه مجتمعة، ويمزج رفضه بالسخرية ورفض حسني جعل المجتمع يقف أمامه حائراً مدهوشاً، بل ويتجه المجتمه لمواجهة حسني فترى في نهاية الفيلم يقول يوسف ابن الشيخ حسني "مشكلة أبويا أنه مش راضي يقتنع أنه أعمي).
ولكن في نهاية الفيلم استطاع عن غير قصد أن يكشف للمجتمع أنه ليس الأعمي أو أنه ليس المُستعمى وأن من يستعمونه على حد قوله هم العمي، وأن من حاولوا خداعه مستغلين فقدانه لبصره يعرف هو عنهم أكثر مما يعتقدون في مشهد الميكروفون (مكبر الصوت).
حسني يقدم لنا طريقة مميزة لمواجهة الواقع. فالكل لديه عجز والكل لديه عائق في حياته وليس من اليسير أو من السهل إزالة تلك العوائق، وقد يكون من المستحيل في بعض الأحيان إزالتها، ولكن الاستسلام لتلك العوائق يخلق عقبة تفوق حجم العوائق مجتمعة، وأن على الإنسان الحلم والتحليق بخيالة، فإن كان الواقع بذلك القدر من السوء فلنستعن على مواجهته بالحلم ولنطارد أحلامنا مهما كان رفض المجتمع لتلك الأحلام.