قد لا ينتبه الكثير من المسلمين إلى أنَّ كلمة "الهجرة" مُرتبطة بالوجدان الإسلامي منذ نشأته، حتى أصبح الإسلام يُؤرَّخ بها؛ لأهميتها البالغة، فيُقال "قبل الهجرة" أو "بعد الهجرة"، إشارةً إلى الفارق الذي أحدثته تلك الهجرة في تقوية الإسلام ونجاحه كدِين بعيداً عن مهبطه الأصلي في مكة المكرمة، وسيبقى هذا الارتباط وثيقاً إلى يوم الدين.
في اعتقادي، إنَّ الهجرة دائماً مُرتبطة بالنجاح إذا صاحبتها نية طيبة تُمهِّد الطريق لذلك، يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ولكلِّ امرئٍ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه فهجرتُه إلى اللهِ ورسولِه، ومَن كانت هجرتُه لدنيا يُصيبُها أو امرأةٍ يتزوَّجُها.. فهجرتُه إلى ما هاجَر إليه".
عندما تهاجر، ففي الحقيقة أنت تتحرر.. فخلال الهجرة يمكنك تجربة أمور جديدة لم تكن تقوى على تجربتها في مجتمعك بين أهلك وعشيرتك، فالقيود أساس الفشل، والهجرة تمنحك الحرية المطلوبة لتجربة أمور أخرى يأتي النجاح بين طياتها. المجتمع الجديد الذي تهاجر إليه ولا تعرف فيه أحد، يُحررك من الخوف من الفشل، فتُصبح أجرأ على التجربة ولا تخشى أن تفشل؛ لأنه لا يوجد حولك مَن يُعيب عليك ذلك.
الهجرة تمنحك الثقة التي سلبتها منك مجتمعات "العيب" و"الحرام"، سيمكنك وقتها أن ترى وجهاً جديداً للحياة لم تكن لتكشفه لك في مجتمع مُنغلق لا يُرحب بها، ستمنحك الهجرة فرصة الاستماع لصوتك الداخلي الذي حجبته ضوضاء مجتمعك!
عندما تهاجر ستُدرك مباشرة أنَّ الخلل لم يكن فيك أنت؛ بل في المكان الذي كنت جزءاً منه، خلال الهجرة يتسنَّى لك أن تعلم ما الذي يمكنك فعله في هذه الحياة.
هكذا كانت هجرة الأنبياء والصالحين.. هي هجرة إلى النجاح، عندما أراد نوح أن ينجح هجر قومه إلى الفُلك، وعندما أراد لوط أن ينجح هجر قومه بقطعٍ من الليل، وعندما أرادت مريم أن تنجح هجرت قومها إلى المحراب، وعندما أراد موسى أن ينجح هاجر بقومه إلى فلسطين، وعندما أراد محمد ﷺ أن ينجح هجر قومه إلى يثرب.
مما يُميِّز وقتنا الصعب، أنَّ الهجرة فيه باتت من أركان الحياة الصحيحة؛ فمنا مَن يُهاجر طوعاً ومنا مَن يُرغم على ذلك، وعلى الرغم من صعوبة الحياة في المهجر، فإنه دواء لكثير من الأمراض الحياتية، أهمها كساد العقل وهدر الطاقات.
موضوع الهجرة ليس موضوعاً بسيطاً يمكن تغطيته في مقال أو اثنين، خصوصاً إذا كان الاستشهاد بهجرة خير الأنام ﷺ، فهنالك الكثير من الاستنباطات التي يمكن الإستفادة منها، وأنا شخصياً استفدت أيما استفادة من دروس الهجرة الشريفة من خلال تنقلي بين بلدان العالم وقارَّاته، وإن كنت متابِعاً -عزيزي القارئ- لما أكتب، فلعلك تعلم أني عشت حتى اللحظة في 6 بلدان و3 قارات مختلفة، ومذاق الهجرة لا يُفارقني!
دعونا نقف على بعض الدروس المستقاة من الهجرة النبوية، أهمها التحرر من قيود المجتمع التي تمنع عنك الخير! فإن لم تجد النجاح في مجتمعك، فهاجِر بحثاً عنه في مكان آخر، فقد يكون الخير بعيداً عن وطنك وأهلك، وكذلك فعل رسول الله ﷺ عندما استيأس من الدعوة في مكة، وبدأ البحث عن وجهة جديد لدعوته.
فالهجرة حاجة وليست غاية، فلا يُهاجر الإنسان فقط لمجرد الرغبة في الهجرة؛ بل عندما يُضطر إلى ذلك، فالهجرة كالدواء، إن لجأت إليها من دون حاجة.. قضت عليك! لكن إذا ضاقت السبل، فوقتها أرض الله واسعة والهجرة أفضل من البقاء. ولم يُهاجر رسول الله ﷺ إلّا بعد 13 سنة من الدعوة المستمرة في موطنه مكة.
أهم نقطة يجب الوقوف عليها، هي أنَّ الهجرة لا بد أن يُصاحبها هدف، وهذا الأمر قد يكون أصعب ما يواجه الإنسان.. فلا يعلم لماذا يحيا، ولا يدري لماذا يُهاجر.. فقط يسير مع القطيع إلى أن يسقط من حافة الجبل! وعندما هاجر رسول الله ﷺ كان هدفه واضحاً أمام عينيه؛ وهو تقوية الدعوة الإسلامية وتأسيس الدولة التي ستوصّل رسالة التوحيد إلى العالمين.
لذلك، تُحتِّم علينا الهجرة انتقاء وجهة صحيحة، فليست كل الأماكن تربتها صالحة لتحقيق أهدافنا، وقد يكون شد الرحال إليها بمثابة الإنتحار الاجتماعي، وقد أحسن رسول الله ﷺ اختياره يثرب -بوحي من الله- التي كانت أفضل تربة لزرع بذرة الدعوة فيها، وأهلها رحبُّوا برسول الله ﷺ ليُكمل دعوته من أرضهم.
لا أريد أن يُفهم من كلامي أني أنفي تحصيل النجاح داخل أوطانكم العربية.. أبداً! ولكن في ضوء الهجرة النبوية التي تتكرر أحداثها في زماننا، لا ينبغي إهمال الفوائد التي يمكن أن نجنيها من استيعاب بعض الدروس النبوية في تلك الهجرة، والبحث عن النجاح ليس محصوراً فقط في تحصيل المال أو العلم.. إنما أيضاً في تحصيل التوبة ورضا الله وكل ما يقود إليه، ولنا في قصة الرجل الذي قتل مائة نفْس أسوة عندما قال له الحكيم: "إذا أردت أن تتوب، فاهجر قريتك إلى أخرى صالحة تُعينك على ذلك".
قد أظلتنا سنة هجرية جديدة (1439هـ)، تُذكرنا بأهم قرار اتخذه أهم شخص في الوجود؛ بسببه ننعم جميعاً بنتائج ذلك القرار، واليوم -عزيزي القارئ- المسؤولية واقعة عليك بأن تُحسن اختيارك في هجرتك؛ كي تنعم ذريتك التي ستأتي من بعدك. وتذكر أنَّ أفضل الهجرة هي الهجرة إلى الله ورسوله، سواء كانت بوصلة هجرتك إلى الغرب أو عودة إلى الشرق.
كل عام وأنتم بخير..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.