إن كان الإعلام هو القوى المحركة للمجتمع، فأي خطأ في توصيل المعلومة أو وصول المعلومة بالشكل الذي يسمح للشائعات أن تنتشر لا يمكن التهاون به، فهو جريمة في حق المجتمع وفي حق مهنة الصحافة.
الوضع يختلف في كتابة العمل الأدبي، فهناك قواعد أساسية لا بدّ من اتباعها حتى يتم تصنيف العمل كـ"رواية/ قصة/ مسرح..إلخ" وأي خطأ قد يدفع العمل إلى الهاوية.
أما إن كان النص مكتوباً خصيصاً للدراما، فللحوار الدور الأساسي إلى جانب فكرة العمل، ووحدها المصداقية هي التي تضمن نجاح العمل.
النقاد دوماً يبحثون عن الأخطاء في الدراما التي تخص الكتابة أو الإخراج أو الديكور، لكن يتجاهلون الأخطاء الطبية في العمل الدرامي، التي لها التأثير المباشر على المتلقي.
لذلك حاولنا أن نستعرض أغلب الأخطاء الطبية الشائعة في الدراما ومعالجتها؛ كي لا تسبب خطراً على صحة المشاهد في حال التعامل معها.
*****
المعنيون بالمجال الطبي وحدهم مَن يستطيعون أن يكتشفوا ببساطة الأخطاء الطبية في الدراما، وفي أغلب الأحيان يعانون من انتشار تلك الأفكار في عقلية المشاهد الذي يعتبر أن المعلومة المُقدمة في العمل الدرامي صحيحة مائة بالمائة.
ففي أغلب الأفلام المصرية القديمة نجد أن:
1- المريضة تفقد الوعي ويتم استدعاء الطبيب الذي يكشف "كشف باطني": يكشف بالسماعة للتأكد من نبضات القلب ويقيس الضغط، ثم نتفاجأ بالتشخيص (المدام أعصابها تعبانة يا ريت ترتاح في العزبة).
كيف يصبح الكشف الباطني هو كشف للحالة العصبية والنفسية؟
2- وفي أحيان أخرى يخرج الطبيب قائلاً: "مبروك المدام حامل" فكيف يكتشف الحمل في الشهور الأولى بكشف باطني ودون إجراء تحاليل؟
3 – أو أن يعطي الطبيب المريضة "حقنة تساعدها على النوم"، فأي عقار يسبب النوم هو مخدر، والذي لا يُصرف إلا في العمليات من طبيب التخدير، وأي عقار نفسي والذي يُسبب النعاس وليس النوم المباشر فور تعاطيه لا بدّ أن يُصرف بـ"روشتة طبية" مختومة وموقّعة من الطبيب المعالج، وليس بالصورة التي تقدمها لنا الدراما.
4- الإسبرين كحل سحري لجميع الأمراض والأوجاع ولكل الأعمار.
تُعتبر هي أكبر الأخطاء الطبية الفادحة المتداولة بين الناس بسبب انتشارها في الدراما، والتي تسببت في الكثير من المشاكل الصحية أشهرها:
– متلازمة راي (مرض كبدي قاتل يُصاب به الأطفال دون الـ16 عاماً والذين يتناولون الإسبرين عند الاشتباه في وجود عدوى فيروسية).
– قرحة المعدة؛ لأن الإسبرين لا بدّ أن يؤخذ بعد الطعام.
– التفاعل مع أدوية السكري وحامض الفالبوريك "أدوية حساسية الصدر".
– كما يجب التنويه بأنه لا يؤخذ عقار الإسبرين للحوامل والمرضعات ولمرضى الفشل الكلوي.
تبدو المعلومات بسيطة لعقار يُصرف دولياً دون استشارة طبيب، لكنها فادحة الخطورة في آثارها الجانبية.
5- الميكروكروم كمطهّر للجروح، هي المعلومة الطبية الأشهر، للإسعافات الأولية للجروح، غير أنها المعلومة الطبية الأخطر؛ لأنه ببساطة يتكون من "مركير = الزئبق" و"الكروم"، يُعتبر الزئبق مادة سامة للأنسجة؛ لذلك لا تستخدم في حالات الجروح والحروق حتى لا تسري في مسار الدم وتسبب تسمماً ومن ثَمّ الوفاة.
(تاريخياً: سبب وفاة نابليون هو جرعة زائدة من مادة الزئبق التي كان يستخدمها الفرنسيون في تلك الحقبة استخداماً مباشراً للجلد لأسباب عدم الاستحمام).
6- المياه الساخنة والولادة الطبيعية:
ظلت الدراما لسنوات تُصدر فكرة أن الولادة الطبيعية لا تتم دون مياه ساخنة، ويتساءل البعض إلى يومنا هذا عن السبب، ومنهم سيدات قد خُضن التجربة ذاتها.
دور المياه الساخنة يأتي بعد الولادة في تسهيل نزول المشيمة/الخلاص، التي تجد بعض السيدات صعوبة فيها، فالمياه الساخنة يتم سكبها لتحدث انقباضات بالرحم ويتم نزول المشيمة دون إحداث نزيف أو مضاعفات للأم، غير أن هذه الحالة تُعتبر نسبتها ضئيلة جداً في السيدات، إلا أن الدراما قد ضخّمت الأمر وجعلته إلزامياً في جميع حالات الولادة.
7- كما أن هناك أخطاء طبية مفتعلة لتخدم السير الدرامي، فمثلاً في فيلم المرأة المجهولة: كتب الطبيب على دواء يتم استنشاقه عن طريق الأنف ليساعد على فتح شرايين القلب؛ لتستطيع المريضة "الفنانة زهرة العلا" أن تتنفس، في حين أن عملية التنفس تتم بواسطة الشرايين الرئوية وليست شرايين القلب، وأن ذلك الدواء يُمكن استخدام الزعتر المغلي كمادة للاستنشاق بدلاً منه، غير أن المؤلف لم يجد مخرجاً لعمل "الفنانة شادية" في ملهى ليلي غير ذلك السبب الطبي المفتعل.
8- في فيلم "رسالة من امرأة مجهولة"، وتحديداً في آخر عشر دقائق؛ حيث قام الفنان فريد الأطرش بالتبرع بالدم مباشرة؛ لأن فصيلة دمه هي ذاتها فصيلة دم ابنه.
أولاً: لا بدّ من التأكد أن "الريسوس/آر إتش" مطابق؛ لأن في حالة التبرع من آر إتش موجب لـ "آر إتش" سالب يحدث تكوين أجسام مضادة وتكسير كرات الدم مما يُسبب الوفاة.
ثانيا: هناك معايير واختبارات قبل نقل الدم، للتأكد من خلو المتبرع من أمراض قد يؤذي المريض الذي يتلقى الدم.
9 –في فيلم غرام الأفاعي عام 1988 الذي قاضت نقابة الصيادلة بعده أي عمل درامي يشوّه صورة الصيدلي في المجتمع، تغافل البعض عن أن تأثير السم يختلف في الرجل عن المرأة، وكذلك يختلف مع أنواع الطعام والشراب المتداخلة معه، وبذلك لا يمكن للبطل والبطلة أن يموتا في نفس اللحظة والمشهد من الفيلم.
10- أما عن الأخطاء الطبية الخاصة بمهنة الصيدلة، نجدها جلية في مسلسل أنا شهيرة أنا الخائن:
– الأخطاء الخاصة بمزاولة مهنة الصيدلة حسب قانون 127 لعام 1955 لمزاولة مهنة الصيدلة في مصر، التي يدور أحداث المسلسل فيها:
– لا يمكن فتح صيدلية لطالب صيدلة لم يتم إكمال دراسته وحصوله على البكالوريوس في العلوم الصيدلية ومزاولته للمهنة لسنتين، وكذلك لا يمكن أن يزاول مهنة الصيدلة قبل حصوله على ترخيص بمزاولة المهنة من نقابة الصيادلة.
– يتم تحديد القسم الذي يتم العمل به كمعيد حسب التقدير العام لأوائل الدفعات ورغباتهم، ولا يمكن التراجع أو التحويل بين الأقسام، كما الحال لدى شهيرة بطلة العمل التي تعمل بقسم: الفارما والسيوتكس/ الصيدلانيات.
– لا يمكن لمعيد /أستاذ جامعي أن يجمع بين عملين "التدريس بالجامعة والعمل بصيدلية خاصة"، وكذلك لا يجوز له أن يُدير صيدلية وإن كان يمتلكها وذلك بموجب القانون.
*****
مما سبق عرضنا الصورة السلبية للأخطاء الطبية التي يتضمنها العمل الدرامي، ويقوم بنشرها في المجتمع وتداعيات ذلك، غير أن هناك أعمالاً درامية قدمت الصورة السليمة لا بد أن نُسلط الضوء عليها:
1- فيلم "حياة أو موت"، صاحب العبارة الأشهر: "لا تشرب الدواء، الدواء فيه سُم قاتل". والذي يعرض من خلاله عن ضمير الصيدلي الذي اكتشف خطأه في تركيب الدواء، وأن المادة الفعالة بتركيز عالٍ في حال تناولها قد تُودي بحياة من يتناول الدواء، فقام بإبلاغ السلطات لمنع تناول الدواء، وهنا أشار الفيلم إلى ضرورة التأكد من العقار قبل تناوله وكذلك ضبط الجرعة إلى جانب تناوله دور الصيدلي في المجتمع.
2- في فيلم "قنديل أم هاشم"، كان العمل قائماً على "القطرة" المباركة وهي عبارة عن زيت يضعونه في عين المريض ليشفى، لكنه كان زيتاً حارقاً لمقلة العين وضاراً، وبالطبع كل من يمتهن الطب يعرف أن قطرات العين لا بد أن تكون معقمة ووسطها مائي في الأساس.
3- نلاحظ أيضاً بعض الأعمال الدرامية التي تناولت حالات نفسية: الإدمان والانفصام في الشخصية، التي قدمتها ببراعة "الفنانة نيللي كريم" مثل: مسلسل تحت السيطرة، ومسلسل سقوط حر.
فعلى الرغم من تناول موضوع الإدمان في أكثر من عمل درامي سابق، فإنه لم يتم التفاعل معه بقدر التفاعل مع مسلسل تحت السيطرة، الذي يعتبر أعلى المسلسلات مشاهدة في رمضان 2015، وذلك لتقديمه محتوى سليماً للمتلقي احترم عقله وقام الممثلون بالالتزام بالنصائح الطبية المقدمة، والذي قام الدكتور نبيل القط "استشاري الطب النفسي" بالمراجعة العلمية للمحتوى الدرامي، فنتج عنه صورة طبية سليمة وعمل درامي ناجح.
*****
في إطار خلق دراما سليمة وخالية من الأخطاء الطبية في مصر والوطن العربي، ولتصل المعلومة دوماً خالية من الشائعات التي قد تودي بأرواح بريئة، تم تقديم ملتقى مدفيست 2017، بدور التوعية عن الأمراض النفسية وكيفية تناوله في الدراما، والذي قام بفكرته الدكتور مينا النجار.
حيث يتم دعوة المعنيين بالدراما من كُتاب ومخرجين وفنانين مع الأطباء النفسيين للتفاعل ولتقديم معلومات سليمة لتقديمها في الدراما ومن ثَمّ نقلها للجمهور.
وذلك من خلال عرض أفلام ومناقشتها من الأطباء والمخرجين، حتى تصل الصورة السليمة للتشخيص، ما يساعد أيضاً في أداء نفسي سليم للممثل.
قامت الفكرة في لندن منذ سنوات، وتم تعديلها لتناسب الطبيعة المصرية، ولتكون مصر هي الرائدة في الوطن العربي لتقديم دراما خالية من الأخطاء الطبية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.