كيف تُغيرنا المِحَن ولو في ثلاثين يوماً فقط؟!

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/23 الساعة 15:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/09/11 الساعة 15:45 بتوقيت غرينتش

أسمعه يضحك ضحكاته المتتالية المستفزة جداً، فتسير في جسدي قشعريرة غير محمودة الأثر، أراه بخطوط الشر والخير المتداخلة جداً، فيصعُب عليّ أن أحكم عليه حكماً قاطعاً، لكن أعرف أنه يخفي وراء شره وخططه المحكمة وجعاً هو ما ساهم في أن يتحول لهذا اللون من الأشخاص، إنه شخصية سامح أو توفيق المصري في مسلسل 30 يوم، التي يؤديها الفنان العبقري باسل الخياط.

لم يكن ولعي بالمسلسل منذ الحلقة الأولى سببه أحداث الإثارة والتشويق التي يزخر بها، وإدخاله للمشاهد في عالم الشخصيات دون مط أو ملل من أول لحظة بدأ فيها فقط، وإنما لأنه قد مسّ جانباً نفسياً بداخلي، كان يصعُب عليّ التعبير عنه قبل أن أتابع هذا المسلسل، جانب يتعلق بتشوهات النفس البشرية جرّار ما تمر به من مِحَن، النفس التي تمر بالكثير من التغيرات لما تكابده من ضغوط يومية في الحياة، تغيرات قد تصل إلى حد تحوّل سلوك الإنسان من الخير والحب إلى الشر التام.

ظل المسلسل يعصف بوجداني ما بين حلقة وأخرى، إلى أن أتت -في نظري- الضربة القاضية، الحلقة التي أرقتني بشدة، لاستمراري في التفكير فيما قاله توفيق للدكتور طارق حلمي، الطبيب النفسي المشهور، الضحية التي اختارها توفيق ليُطبّق عليها تجربة "كيف يمكنك أن تقتل إنساناً وهو ما زال على قيد الحياة؟"، والتي قرر أنه يستطيع أن يفعلها بأن يحيط ضحية هذه التجربة بخوف "مطلق"، خوف على الحياة، على الأهل، على العمل، على السمعة، خوف من الفضيحة، من القتل، من أي شيء يمس حياة هذا الإنسان وحياة المحيطين به، في هذه الحلقة تحديداً -الحادية عشرة- وضع توفيق الدكتور حلمي في موقف مُشابِه لأول موقف تعرض له في التجربة، جعله يختار، ما بين حياته، وحياة امرأة تتعلق بملف علاجها لدى طبيب نفسي زميل للدكتور طارق، من الممكن جداً أن يعصف بحياتها ويدمرها، في حين قد خيّره في أول موقف بين أن يقتل امرأة لا يعرفها بحقنة مميتة، وأن يقتل توفيق ابنته الصغيرة، لم يستطِع طارق أن يقتل امرأة بدم بارد من أجل حياة وحيدته، وآثر أن تُقتَل ابنته على أن تموت بسببه إنسانة بريئة، لكن بعد عشرة أيام فقط من التجربة، تغير طارق، وآثر أن ينقذ نفسه على حساب سمعة وحياة امرأة أخرى، فصفق له توفيق بجنون، وأخبره أنه سعيد بنجاح التجربة، نجاحها في أن تشوه شخصيته!

يكتب طارق حلمي تقريراً نفسياً عن التغيرات النفسية التي ألمت بشخصيته بعد ١٥ يوماً من التجربة بناءً على طلب توفيق لاحقاً، يقول فيه إن الضغوط النفسية التي ألمت بحياته والتغيرات الكثيرة المتلاحقة التي يعانيها في حياته اليومية بسبب الخوف هي السر الرئيسي وراء تشوهاته النفسية التي لم يكن يتوقع قط أن تحدث، والتي جعلته يتأكد أن أي إنسان مهما بلغ به العدل، بعد كم الضغوط والمخاوف التي يعيشها، لو وُضِع في أول مفترق طرق بين الظلم والعدل، سيختار الظلم إذا كان يستطيع أن يُنجي به نفسه، وهو بالضبط، ما يجعلنا المسلسل نستخلصه، ونبلوره بشكل يلفت أنظارنا إلى حيواتنا الشخصية، لنتفحصها بدقة وعلى مهل، ونجري لأنفسنا كشف حساب بالماضي والحاضر، كيف كنا، وكيف أصبحنا، وإلى أي مدى أثرت الضغوط التي نعايشها في حياتنا على تشوهاتنا النفسية؟ هل أصبحنا نسكت عن الحق؟ أم زاد دفاعنا عنه؟ هل نشعر بالأمان؟ بالقدرة على الإنجاز والعمل والنجاح؟ أم يعتري بيئتنا قدر لا بأس به من الضغوط التي تقودنا بالفعل للفشل وتقتل فينا روح الإبداع؟ هل تمنينا لقتل أحدهم في خضم ثورتنا وغضبنا منه هو أمر عادي؟ أم أن تكرار هذا التمني قد يؤدي إلى القتل الفعلي؟!

خطوت خارج حياتي خطوتين، ونظرت إليها عن بعد، لربما أرى الأشياء بشكل كلي، ثم اقتربت منها شيئاً فشيئاً، لأرى التفاصيل الدقيقة جداً، ولألحظ التغييرات التي ألمت بي عبر الضغوط والمحن والمخاوف التي عايشتها، فوجدتني شابة في منتصف العشرينات، تحيا في بيئة عربية شرقية، تختلس من المرأة حقها في الحياة، وتفرض عليها الكثير من القيود في رحلة بحثها عن ذاتها وعن حريتها، ورغبتها في تحقيق كينونتها، فأخاف الإخفاق والفشل، أخاف من كم الضغوط المفروضة عليّ والتي تجعلني بحاجة لأن أثبت دائماً لمجتمعي أنني قادرة حتى التساوي بالرجل، فأبذل مجهوداً مضاعفاً يحرمني القدرة على التوقف لبضع ثوانٍ لالتقاط أنفاسي، للاستمتاع بالحياة، أمشي في الشارع يومياً لأواجه التحرش الجنسي اللفظي والجسدي، فأخاف النزول إلى الشوارع، أخاف ألا أستطيع الدفاع عن نفسي إذا ما تعرض لي أحدهم، أفكر في مئات السيناريوهات إذا مشى خلفي أحدهم في شارع مظلم بخطى ثابتة، أصبت بالبارانويا، أصبحت أتشكك في أي رجل يقترب مني في المواصلات أو الطرق، فالكل ذئاب بشرية حتى يثبُت العكس، رغم أنني كنت أؤمن قبل اليوم ببعض سنوات أن هذا لا يجوز، وأنه من الواجب افتراض حسن نية البشر ما لم يسيئوا إليّ، إلا إن كثرة مخالطة الوحوش جعلت مني بدوري وحشاً، واجهت أصعب الخذلانات من أقرب الناس، أناس كنت أظنهم يوماً سنداً وقوة، حتى بعض أفراد العائلة، فتقوقعت على نفسي وأغلقت على قلبي بألف مفتاح، منعته من الحب، من الحياة، من الإيمان بأنه لا يزال ثمة أشياء تدعى صداقة وصدقاً، عانيت كثيراً من نظرات العشرات إليّ باعتباري فتاة ممتلئة منذ طفولتي وحتى وقت قريب، فتكونت بداخلي هواجس تُشعِرني طوال الوقت بالخوف، والرهبة من نظرات المجتمع الحادة التي تفترض بأنني دميمة، تملأنى بالـinsecurities، إنه ثمة مقاييس واحدة فقط للجمال، تتمثل في الخصر النحيل جداً، والشعر الذهبى الأشقر!

يعاني مجتمعنا من أشياء ضاغطة جداً، تغييرات خانقة، تُضيق القيد على أفراده، تشوههم نفسياً بالقدر الذي يقبلون معه الظلم، في ظل مناخ سياسي يُعد فيه الجري كل الجدعنة وليس نصفها فقط، كما يقول المثل المصري الشعبي، في ظل أسعار مرتفعة تجعلهم لا يقدرون على الزواج والإنجاب، وفي ظل فساد اجتماعي وتعليمي يستفحل معه الفقر والعوز والجهل؛ لنجد أناساً تحكمهم عادات وتقاليد ضاغطة تنتج لنا جيلاً كاملاً من المشوهين، الذين ينقلون تشوهاتهم إلى أولادهم، وهلمّ جراً!

أظن أنه بعد مشاهدة هذا المسلسل، سيحتاج كل منا إلى مراجعة نفسه، وإلى الانتباه للتشوهات الحاصلة في شخصيته، وإلى زيارة أقرب طبيب نفسي، فكلنا مرضى حتى وإن لم ندرك هذا!

 


اقرأ أيضاً عن مسلسل ليالي أوچيني:

ليالي أوچيني.. ما الذي يجعل هذا المُسلسل مختلفاً عن باقي مسلسلات رمضان؟

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
آلاء الكسباني
كاتبة مصرية
تحميل المزيد