محبوبتي نظام

بعد أن انتهى كل شيء عرفتُ أن العقل ألعن نعمة في الكون. نعمة تخنقُ نبوع الجنة التي تصبُ ألوانها في الحياة الدنيا. قتلني العقل، ولم أترك لقلبي الفرصة ليقودني نحو ما يُريده الله له. زَمَان، كانت قراراتي مزيجاً بين عقلٍ وقلب، مذبذبة بينهما مع طغيان عقلي في النهاية، لكن في كل مرة لم أستجب فيها لقلبي ندمتُ لاحقاً.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/23 الساعة 03:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/23 الساعة 03:31 بتوقيت غرينتش

(1)

لم تكن حياتي، منذ البداية، طبيعية أو مألوفة. وهذه الحقيقة -في حد ذاتها- طبيعية إذا عرفتَ أني فلسطيني، أي لاجئ. لستُ لاجئاً بالمعنى السياسي؛ بل لاجئٌ بكل المعاني الأخرى، لا يُمكن أن تنسى للحظة واحدة أنك لاجئ، ولا الناس يَنسون. تُساءَل دوماً: لمَ تركت فلسطين؟ وأنا لم أتركها! أُساءل بشكل مستمر عن تفاصيل لم أعرفها عن فلسطين وقصصها. الآن كلنا لاجئون، الإنسان في كل مكان مشرد، حتى بين أهله. تنقُّلي الدائم والكثير جعلني أحبُ وصفَ نفسي بأني إنسانٌ عالمي.

ما دمتَ بلا وطن فهجراتك، الاضطرارية، مُتكررة رغماً عنك. فكان أن قضيت طفولتي في مدن ودول مختلفة؛ بل وقارات متباعدة ومختلفة ثقافياً. تقريباً، أُتقن معظم لهجات العرب باستثناء المغربية منها، لا أفهم ما يقولون، لكن أحبهم. أياً يكن، خُلقتُ متنمراً حادَ الطباع وصعب المِراس، أفعل ما أريد وأقول ما يخطر لي، لا أعرف الخوف أو الندم، ولم أشعر بأني مضطر إلى فعل شيء أو تركه.

لم يكن للإحساس معنى في حياتي ولا قلبي عرفَ الشعور، لا ألماً ولا حباً.

اتركني في أي مكان وعُد بعد يوم، سأجذب نصف الموجودين وسأتعرف على النصف الآخر. هذا أنا، ولم تغير فيَّ الهجرات المتتالية، من بلد إلى بلد آخر مختلف تماماً، أي شيء، وظللت -كما أنا- صلباً، تنكسر الهجرات واحدة تلو الأخرى على ظهري وظهري لا يلين. حتى وقعت لي أكبر هجرة في حياتي!

انتقلت، كأي انتقال اعتيادي، إلى مدينة جديدة غير عربية؛ إسطنبول. لم آتِ هذه المرة وحيداً؛ بل معي زوجتي صفاء، التي أنجبت لي لاحقاً أجملَ وردتين في الحياة؛ ابني وبنتي: قَيْس وفاطمة. علَّمتني صفاء، التي تزوجتها زواجاً تقليدياً إلى حدٍ ما، أنَّ الحب يأتي شيئاً فشيئاً، وينمو ببطء، أو بمهل، ومع المعاشرة يصيرُ بناءً متماسكاً وصلباً، هل أقول: يُحكم قيوده عليك؟ ليس تماماً، فقيوده تحميك في كثير من الأحيان. الزواج، إن صحَ القول: قفصٌ جميل. زواجي من الزيجات الأسعد التي رأيتها والحمد لله، كان زواجي بصفاء موفقاً لأبعد حد، لكن لم أُدرك أنه سيكون يوماً ما عاملاً -مع عوامل كثيرة- يُعيقُ حركتي عند الهجرة الأكبر في حياتي.

(2)

أنا جامد وعنيد، وهذا يعني أنني لا أتغير بسهولة. أحياناً، تقليديٌّ بتحفظات كثيرة على المجتمع والتقاليد. تملكتني فترةً طويلةً قناعةٌ تُصر على أن الحب وَهم وخدعة يقع فيها القلب الضعيف والرجل المريض. تخيَّلْ شخصاً ضخمَ الجسم وحادّ الكلام ويحملُ قناعةً جافة كهذه، بالطبع سينطلقُ لساني مستهزئاً بكل مغرم ومُحب. أنا أعترف: لقد كنت جاهلاً، جاهلاً جداً وكثيراً، وكانَ فهمي للحب أبلهاً وسطحياً. طبيعي! فمنظوري للحياة كان عقلانياً صرفاً، وظلَّت قاعدتي الأولى في كل أحكامي: لا تُدخل المشاعر. بعد هجرتي الكبرى، صارَ إصدار الأحكام أمراً تافهاً ولا حاجة لي به.

القصة، كل القصة تبدأ، بشكل عادي جداً. كنت في زيارة سياحية قصيرة لبلد جديد عليَّ، وفي ذلك البلد رأيت تلك السيدة، نِظَامْ، هذا اسمها العجيب. إذا كنت تنتظر أن تسمع شيئاً غريباً ومُثيراً فَلا، لم يأسرني جمالها ولا أخذتني الدهشة لرؤيتها، كانت فتاة ككل الفتيات اللاتي رأيتهن في العمل وفي الطائرة أو حتى حسناوات الجامعة، بالكاد آمنتُ بالحب فكيفُ أؤمن بالحب من النظرة الأولى؟

لم يلفتني إليها في البداية شيء سوى اسمها؛ نِظَام، أخذ حيزاً في ذاكرتي، ما هذا الاسم النادر؟! بالطبع، بدا غريباً عليَّ عندما نَطَقَتْ به مُعرِّفةً بنفسها كمرشدةٍ سياحية لمجموعتنا أمام مَعلمٍ تاريخي في بلد غير عربي، "سأكون مرشدتكم في الأيام القادمة". نظام! كررتْه مرتين أو ثلاث حتى التقطته المجموعة التي لم تُخفِ خيبة أملها بأن مرشدتنا المنتظرة إما عربية وإما مسلمة.

كل الأصدقاء معي جاءوا مع زوجاتهم وأطفالهم، وأنا كنتُ وحيداً. كان الأمر محرجاً في اتجاهين: محرجاً لي، فلا أحد أتكلم معه سوى نظام، ومحرجاً لأصدقائي، فزوجاتهم عملنَ كصقور مراقبة ضاربة كلما امتدَت عينُ أحدهم بعيداً.

استلطفتُ نظام بعد احتكاك مستمر لأيام، أنا لستُ مثقفاً ولا أفهم شيئاً في الفن والفلسفة وتلك الأشياء الغبية، وعكسي تماماً، تبني هذه الأشياء حياتها. وعلى الرغم من ذلك، كانت محادثاتنا مفيدةً جداً. استطاعت نظام أن تفهمَ عني ما أريد؛ بل استطعتُ إقناعها بكثير من الأمور! وبعد محادثات طويلة في بهو الفندق، بدأ أصدقائي يمازحونني بقولهم: "ها؟ وجدتَ زوجةً لك؟"، "يا شباب لا يقترب أحد من نظام فهي محجوزة". لم يَعن كلامهم لي شيئاً وتابعت جلساتي الطويلة معها، إنها تمسك الأمور المعقدة وتحوِّلها إلى قصص بسيطة ومفهومة، شعرتُ بأنها تنورني.

(3)

في كل يومٍ أعودُ للبيت، أُلاعب أطفالي وأخوض نقاشاً جاداً أو بسيطاً مع صفاء. صفاء تحملُ معها معنى اسمها حيثما حلَّت، وإذا أردتُ أن أصفَ حياتي معها فهيَ صفاءٌ في صفاء.

تمهَّلْ، بالطبع ليست حياة خيالٍ وردي! تظلُّ "صفاء" زوجتي، وبين كل زوج وزوجته ما بينهما من المشاكل. نختلفُ في وجهات النظر في كثير من الأحيان، ويتعكر الجو بيننا فترات قصيرة. على كلٍ، ألم أقل إني حادٌ وصريح؟ هذه الصراحة ألقَت قنبلة كبيرة في حياتي، قنبلة التعدد، الذي كنتُ واضحاً بشأنه منذ زمن بعيد: طبيعي وعادي، ودخلت نقاشات مطوَّلة مع أصدقائي، وأسرتي، أو بالأحرى مع مجتمعي، حول هذه القضية.

في يومنا الأول، وقبل أن نرتبط في خطبتنا، أخبرتها عن قناعتي هذه، وأني متى أردت الزواج بامرأة أخرى فسيكون الأمر متاحاً لي. كنت وقحاً بعض الشيء، صحيح؟ بادرتني صفاء بسؤال: أتحملُ داخلك فتاةً أخرى؟

هل تريد الجواب الصادق؟ لا، ولم يكن في بالي أي شيء ولا أية فتاة، لكني أردت إبقاء هذا الباب مفتوحاً؛ لأني قد أحتاجه لأي سبب لاحقاً، وأنا لا أحب أن أكون خائناً للعهد، فكان عهدي مع صفاء واضحاً جداً.

يُمكنني أن أقول، بثقة كبيرة، إن ما لديَ أكبرُ وأعظمُ وأجملُ مني بكثير. فصفاء امرأةٌ غير معهودة، إنها سيدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى: لا تحملُ البيت فحسب، إنها تحملُ كلي! كما ورقة شجر تطفو على سطح السطح في بحر كبير، أنا حَيٌ بها. ولنوضح أمراً هاماً جداً، صفاء خلوقة بدرجة تُخيفني وأشعر معها بالتضاؤل، مرَّ على زواجنا سنوات ولم أسمعها تشتم أحداً. أخ، ليتني كنت مثلها.

صفاء مَلاكي، وهي امرأة مؤمنة بالله لا تنام إلا على عبادة. ولأنها تحسن الظن، ولصفاتٍ أخرى كثيرة فيها، أهمها تفهُّمها غير المعتاد لظروفي غير المعتادة! لم أعِش معها أي مشكلة حقيقية هزَّت العلاقة عميقاً؛ بل كل ما بيننا خلافات عادية وغير يومية، قد يمر شهر أو اثنان حرفياً دون خلاف واحد. أنا مغمور بالحب كما تنغمر ورقة الشجر بماء البحر، وأدعو الله أن أظلَّ دائماً هناك لأجلها، سأقف دائماً في آخر كل ممر، آخر كل طريق، وآخر كل مسار طويل، حاملاً باقة ورد وفاتحاً ذراعيَّ لها.

(4)

في إحدى جلساتي مع نظام عرَّفتني على ابن عربي. إن لم تسمع به من قبلُ فلا بأس، فالمُغفّل الذي يكتب هذا الكلام لم يسمع به كذلك، وحتى بعد سماعي به لم أقرأ أو أسمع له شيئاً، وهذا شيءٌ طبيعي جداً فهو لا يقول ما يريد صراحة، عكسي تماماً، يستعمل رموزاً عميقة لا يمكن لبسيطٍ مثلي فهمها إلا بمساعدة من نظام، وهكذا، كانت نظام بوابتي نحو الشيخ الأكبر ومُعلّمتي التي فتَحت لي أصعبَ أفكاره بأفعالها!

بالطبع، لم أفوِّت الفرصة لأناقش امرأة كنظام، بعقلها ورزانتها، في موضوع التعدد. لستُ رجلاً شهوانياً، ولكني لا أكتفي بما يكتفي به الآخرون، هذه طبيعتي التي حاولت كسرها بكل ما حاولت، ولم أستطع فحاولت الزواج مبكراً.

نظام المرأة الأولى التي أقابلها في حياتي وترى أن التعدد لا إشكالَ فيه ضمنَ ظروف معينة. كنت -وما زلت- جريئاً وجلفاً حينها، لم أخشَ من طرح الموضوع عليها ولو أن شعوراً عارماً كان يخبرني بأنها ستراني حيواناً أو "ماضوياً". حتى أنا لا أعرف ما معنى ماضوي هذه، لا تسأل عنها.

على كل حال، كان نقاشاً عميقاً دفعني لقول أشياء مفيدة في موضوع حساس كهذا، نعم لأول مرة أقول أشياء مفيدة، لا تُشكك في هذا.

كما فعلتُ أنا فعَلَت نظام، كنا صريحين جداً. وأخبرتني بأنها، عقلياً، مقتنعة بالتعدد، ولكن مزاجها أو شعورها تجاه الأمر مُتقلب. تناقَشنا بالمنظور الديني لمسألة التعدد: هل هو حلال الآن؟ وقادنا هذا لسؤال آخر: هل نناقش ما هو "حلال" فعلاً أم ما يراه المجتمع حلالاً وحراماً؟ لمَ لا يكون رفض التعدد السائد اليوم في مجتمعاتنا موروثاً اجتماعياً كما أن هيمنة الرجل موروثٌ اجتماعي؟

بالطبع، لم نصل لأجوبة نهائية في نقاش كهذا، لكن اتفاقاً ضمنياً كان بيننا على أن الرجال ليسوا سواء، وبعضهم يحتاج -بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ- نفسية وجسدية، يحتاج لأكثر من زوجة. وكذلك كان واضحاً -بالنسبة لي على الأقل- أني رجلٌ من هذا النوع، وأثارَ هذا الأمر تفكيري في المسألة؛ كيفَ تدفع مجتمعاتنا الرجال نحو علاقات غير مُنظَّمة ولا مُنتظمة، لا يحكمها حبٌ ولا قانون، لا المودة ولا الميثاق الواضح بين طرفي العلاقة، كيفَ تدفع -مجتمعاتنا- الرجل للزنا وللعلاقات غير المقبولة قانوناً، وشرعاً، وأخلاقاً.

ترى مجتمعاتنا هذه العلاقة مرغوبةً أكثر من علاقة أخرى مقننة ومُنظمة، ومؤطرة بالدين والشرع والخلق والمودة، علاقة التعدد. هذا التفضيل للعلاقات المُحرمة والسريعة موجود حتى في المجتمعات التي تسمى "الملتزمة" و"المتدينة"، هذا واقعٌ ملموس، ولا يُمكن لأحد إنكاره.

وأحياناً يندفع الرجال نحو علاقات "قانونية"، ولا أفهم كيف تُعدُ "شرعية"؛ إذ إنها ليست أخلاقية؛ الزواج بنيّة الطلاق. هل في هذا الفعل أي لمسة طُهر أو صدق؟ لا أجدها! لقد تُهتُ هنا بسبب التعارض بين القانوني الديني والأخلاق. أليسَ الدينُ أخلاقاً؟

الدليلُ على كلامي، الحرب التي تُشن على أي رجل يجرؤ على طَلبِ التعدد، ولو بكل وضوح وعلانية، من مجتمعه. حتى مجتمعك الذي تعنَّت ضد زوجتك الأولى ينقلبُ الآن ضدك!

الغريب، أنَّ التعدد فعلُ وصل، يَعني أنت تريد أن تتصل بشخص ما. وردُّ فعل المجتمع على التعدد فعلُ قطعٍ حاد، قد يُودي بعلاقتك مع كل محيطك، يُقطِّعُ أرحامك تماماً، بما في ذلك زوجتك الأولى التي قد لا تتقبل ذلك، وهي الوحيدة التي تمتلك حق الرفض.

لم أفهم حس الإهانة في التعدد، لمَ يكون إهانة للأولى؟ أن تكون مُعدِّداً لا يعني إرسال رسالة إهانة لزوجتك الأولى: لم تكوني جديرةً بي. أنتَ لا شيء أصلاً لتُرسل رسالة كهذه.

أشعرُ بأننا نفقد عقولنا أمام الشؤون والقضايا الاجتماعية المُشابهة؛ إذ لمَ نُحمِّل كل قصة تعدُّد بإيحاءات الفُحش، والشهوانية، وإيحاءات "الغدر" و"الغش" و"الخيانة"، لماذا؟ ولماذا نسمحُ للتجارب السلبية السابقة بأن تفرض نفسها على تجاربنا الجديدة؟ لا أقول: فليتزوج خمسينيٌّ فتاةً عشرينية. هذه قلة وفاء، أن تقطع مع زوجتك عشرين وثلاثين عاماً معاً، ترعاك وتحملك، وتراكَ تنهض وتكبر، ثم لما فترَ جمال وجهها تتزوج فتاةً عشرينية بكراً، هذا تعريفُ الخساسة والحِطة، أو الشهوانية إن أردت، إلا أن يكون لذلك عذره الحقيقي.

ما وجدتهُ مقنعاً، وطوَّرته من نقاشات مختلفة، بعضها مع نظام، أنَّ التعدد المُبكر مقبول، التعدد الذي يحملُ امرأةً ثيّباً، لا أقول: يحميها اقتصادياً أو مادياً، هذا معنى مبتذل، ما أقصده أن يحملها شعورياً بالحُب، وجسدياً بالجنس.

نعم بالجنس، سأقول في هذه القصة ما يتجنَّب البعض قوله: لديَّ صديق قريب جداً، تطلَّقت أخته ومعها ابنها الرضيع، وأمضت 3 سنين بحثاً عن زوج جديد. دعكَ من الكلام المثالي، امرأة كهذه كانت تشتكي الحاجة الجنسية فضلاً عن الحاجة الاقتصادية، وإذا كانت عادية الجمال فمَن سيأتي ليتزوجها؟ "فارس الأحلام"؟ أي أعزب مغفّل سيتزوج مُطلقة معها طفلها؟ لا شيء يدفع شاباً ليتزوج امرأة كهذه إلا الحُب، الحُب الحقيقي والصادق. وللأسف، المجتمع الذي يمنع التعدد هو نفسه الذي يطعنُ المرأة فورَ طلاقها من زوجها الأول. هذا المجتمع "المتوهَّم" الذي نحميه ونصونه يطعننا لحظة اعتمادنا عليه.

(5)

وُلدتُ مُسافراً، لا أحب الجلوس ويشدُّني كلُّ مُختلف بعيد لأذهب نحوه وأراه. أُحب الأرض، وأودُّ لو أحتضنها كلها. وكما وُلدت مسافراً، ظللت أرتحل من أرض إلى أرض، سكناً وعملاً وسياحة.

يوماً ما.. في بلدٍ جميل بالبلقان أحبه وادَّعي أنه يُحبني، مستعيراً هنا قولَ رسول الله: "إن أُحُداً جبلٌ يحبنا ونحبه". أليس حديثاً جميلاً؟ لقد صدمني وأورثني وعياً بالجمادات المحيطة بي، أصلاً لا يصح أن أصفها بالجمادات، أنا الجامد الراكد.
في ذلك البلد، كنت أمشي بحديقة بسيطة، أوقفني رجلٌ لا أعرفه وأخبرني: لدي سر صغير، سأقوله لك مرتاحَ البال؛ لأننا لن نلتقي مجدداً، لا تسألني عن اسمي أو كيف عرفته، لا تسَل كيف أو لماذا، سأضع السر بين يديك وافعل به ما تشاء، خذه أو دعه، ولكنه سِر، لا تكشفه إلا بعد انتفاعك منه، واستفتِ قلبك قبل كشفه.

هذا ما قاله الرجل، مضى وقتٌ طويل وانكشف السر: "الكون المنظور كالكون المسطور، كل شيء فيه بِقَدَر". كلام كبير، هَه؟ أكبر مني بكثير. أجلست الرجل بعد تمنُّعٍ شديد، وقلت له: أسألك بالله أن تشرح! أنا رجل بسيط، أنا مسكين! لا أفهم شيئاً مما تقول، وكان دافعي لذلك، الهدوء الشديد الذي أكلَ الكون من حولي حتى سمعتُ نبضَ قلبي.

جلس الرجل ولم ينطق بشيء، حدَّقَ فيَّ طويلاً بعينين قويتين، فزاد هدوئي هدوءاً، ثم قال: مُرادي واضحٌ، ألم تفهمه؟ أم في قلبك نَكتٌ من السواد؟ برء كلِ قلبٍ في الذكر، لقد سمعتَ عن رسول الله: "تُعرَض الفتن على القلوب كالحصير.. فأيُّ قلب أُشربها نُكتَ فيه نكتةٌ سوداء"، سمعتَ وما وَعيت. وما إنْ أتمَّ قوله هذا حتى شعرتُ بأني قابعٌ في قعر أهبطِ تجويف في بطن هذه الأرض، ووددت لو أن هذا التجويف يُطبق عليَّ فأختفي وأصيرُ عدماً.

اشرح لي قولك الأول، طلبتُ منه محاولاً تسيير الكلام. تنهَّد وانطلق، بنَفَسٍ بطيء: الكون المنظور، كل ما تقع عيناك عليه، كل ما يمكن أن تراه بعينيك، وكل ما يُمكن أن تعرفه مستقبلاً، وكل ذلك وضعه الله في الدنيا لك، يا أبله، لا تسمع من الخلائق ما تريد سماعه؛ بل اسمع ما يُريد الحقُ لك أن تسمع. والكون المسطور، آه يا بني من الكون المسطور، إنه الكتاب المجيد، كتابُ الله.

كما تُخبرنا العلوم عن التناسق الهائل بين مكونات الكون وتراكيبه، نجمٌ على نجم، وكوكبٌ على كوكب، ومجرةٌ على مجرة، والكتاب كذلك، ألا ترى أنَّ ألفاظه دقيقة، كلُ لفظٍ منها له معنى واحد مُحدد؛ ذلك لأن كل كلمة في الكتاب الكريم تُوضع في مكان وسياق مقصود يمنح الكلمة معنى محدداً مختلفاً عن أي كلمة أخرى، ألم أقل إنك تسمعُ ولا تعي؟ فاشهد ما قال الحق: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه قسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون). كما لكل شيء مكانه في الكون، كل كلمة لها مكانها في القرآن.

كلامٌ صعب؟ ما الذي ينفع مسكيناً مثلك من كلامي هذا؟ خذه من شيء يمكن تطبيقه وفهمه بسهولة: تذكَّر أن كل ما تراه في حياتك مقصودٌ لك أن تراه، وفيه حكمة ومعنى، افهم حياتك كقصة مستمرة، كل شيء فيها له معنى وسبب. كُن حَياً بالحُب! تَلْتَقِط اللطائف والإشارات. فالشجرة التي تظلنا الآن، لجلوسنا تحتها معنى وحكمة، ولقاؤنا هنا وانطلاق لساني معك مقصودٌ كذلك.

فهمت يا فتى؟ املأ قلبك بالنور، ثم انهض بنفسك من "نور المعرفة إلى نار الوقفة"، كما يقول النفري، أتركك في أمان الله وحفظه. لا لن تخبرك القصة مَن كان هذا الرجل؛ لأني لا أعرفه ولم أره بعد ذلك. تركني وأنا لست حاضراً عندي، ذهلت عن نفسي وأردتُ النهوضَ خلفه، ولكن جسمي خذلني، علا نبضُ قلبي وعلا! كأن جسمي كلهُ قلب ينبض.

(6)

لم أُدرك عند ولادة ابني وابنتي التوأم، أن اسم بنتي فاطمة، فاطمة الزهراء، سيُساعدني على فهم حُب رسول الله لابنته فاطمة. لطالما أسرني حبُ رسول الله لسيدتنا خديجة الذي اختلف لونه عن حبه لسيدتنا عائشة، لكني اعتقدت أنَ الحب، أصلهُ وقوته، ما كنت أراهُ في فاطمة الزهراء، جوهرةُ قلب رسول الله، وفي قصة سيدتنا زينب، هل سمعتَ بها من قبل؟ لقد وقعَ لي شيءٌ من ألمها وألم زوجها ومحبوبها أبي العاص، لاحقاً سأبثُ في قصتي شكواي التي دفعتني لكتابة ما تقرأ من الأساس.

ولدايَ أهلي، يحفظونك ويحيطونك بالدفء، وكل أفعالهم لها طعم طفولي رقيق. لن أكون كاذباً، ولن أقلد ما يقوله الكثيرون: عند ولادتهما لم أشعر بأي شيء خيالي، لم ينَل مني ذلك الشعور الرهيب الذي يتحدث عنه من يسمون بالـ"عاطفيين". الأمر بسيط، سيدتي التي أُحب أنجبت طفلين أحبهما ويحبانني بالفطرة، وخرَجَت سليمة معافاة. هذا ما شعرتُ به ورأيته. عندما أتحدث عن هذا الأمر يرميني الناس بنظرة سوء واستغباء، لكني لست كذلك. أنا كأي أب، مستعد لفعل أي ما يتطلبه الأمر للحفاظ عليهما ولإسعادهما.

حين أتأمل أفعالهم البريئة، أستغرب وأتذكر الآية: "ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها"، إذ كيف يخرج كل هذا الجمال من صلبي إلى الدنيا.

إنهما ألطف مخلوقات قد تراها، يُحبان شعري القصير ويلعبان به دائماً. أعودُ للبيت وأشغل التلفاز فتأتي فاطمة لتحضر معي، وتبدأ حرب التنقل بين الأخبار والرسوم كرتونية ومن كرتون إلى وثائقيات، بعد احتدامات كثيرة عقدنا اتفاقاً جماعياً بسيطاً: يُشاهدان حلقة من كرتونهم ثم أتابع أنا ما لدي.

لكنهما عنيدان، مثلي تماماً. في صباح يومٍ عادي، استيقظتُ مُتألماً بعد بكاء طويل في الحلم، مرَ بي طيف السيدة الكاملة، المحبوبة التي شقَت قلبي وغارت فيه حتى أبعد نقطة وجلست، مرَ بي خيالها، خيالُ نِظَام بعد أن رحلت. تحسست الدمع فلم أجده على عيني ولا على الوسادة، لكن كثافته في الحلم أشعرتني أن خدي نُحت، نهضت من الفراش لأسمع صوت فاطمة في صالة المنزل تُغني، كانت تحملُ أسطوانة مناديل ورقية طويلة وأخذت تُشكل، بالمناديل الورقية، دائرةً كبيرة مُغلقة، ثم رسمت مربعات ومسارات، وأنا أطلبُ منها بهدوء أن تكفَ عن تخريب المناديل، ولأول مرة أمتعني تمردها عليّ؛ تجاهلتني وتابعت غناءها: I did it my way. تُعيد وترفع النبرة: Maay waaaaaay. "فعلتها بطريقتي". أغنية "بطريقتي"، يقولُ فيها المُغني "فعلتُ ما يجب فعله.. والأهم من كل ذلك: فعلتُ ما أريد بطريقتي!"، الأغنية التي سمعتها عشرات المرات من قبل، بَدَت لي مختلفة تماماً هذه المرة! ودبّ فيّ شعور تآكل الدنيا مجدداً، وتذكرت أستاذي الذي فارقني دون أن أعرفه.

تقول الأغنية: "ندم؟ لا أعرف إلا القليل منه"، لا شيءَ فيها يعبر عني، بل كل شيء فيها يُعبِرُ عن ضدي. لقد تخليت، في لحظة ضعفٍ وجبن وانسحاب، عن أهمِ ما قُدِر لي أن أراه وأحيا معه. ذكرى نِظَام أرق من النسيم، وآلامها كسيفٍ رفيعِ الرأس يدخلُ نصله في قلبي ويخرج، ثم يعودُ أعمق وأحَد!

ندم؟ حياتي مركبةٌ منه. ألم؟ كلي يؤلمني! الفتائل التي نُسجت منها عضلات جسدي تؤلمني، وأوصالي تكتنزُ الوجعَ فيها، وقلبي، قلبي أسود مقلوب. هل أتابع كتابة القصة؟ وهل يُهم أن تقرأها أصلاً؟ أنا أتألم، حبلٌ عُقد على قلبي وامتدَ منه نحو السماء، والآن مُعلَق أنا بينَ نارَين: نار الشوق ونار الندم.

لا أقولُ ما أقول لأبدو مثيراً للشفقة، إياك أن تشعر بذلك. عليكَ أن تتعلم أشياء أخرى من هذه القصة، أهمها عندما ترى شخصاً جديداً "لا تتعجل" في الحكم، "هناك قصة أخرى غالباً". إذا كانت الكتب مبنية من الكلمات، فالإنسان مبني من تجاربه، من "قصصه"، التي لن تعرفها غالباً، فكر بنفسك، وبقصصك ومعاناتك وآلامك التي عشتها ولم تخبر بها إلا عدداً قليلاً من الناس أو حتى لم يعرف عنها أحد، لا يمكن أن تصفها بالتافهة ما دامت تؤلمك، فكر بكل هذه الأشياء وكيف بَنَت "أنت" الذي تقرأ الآن!

لا بأس، اترك القصة واتجه نحو أقرب مرآة وانظر لنفسك. أرجوك اترك ما في يدك الآن الآن، أطلب منك بكل جدية. افتح الكاميرا الأمامية لهاتفك وانظر في وجهك، تأمله عميقاً، اسأل نفسك مَن أنا؟ ألستَ آلامك؟ أليسَ وجهك، وانحناءة ظهرك، وفركشةُ شعرك، كلها من قصصك وآلامك وتجاربك؟ إذا لم تكن كلَ هذا فمَن تكون؟

(7)

لقد كنت جباناً عندما تركتُ نظام، لم أجرؤ على مواجهة أي شيء. انهَرت، أنا الوغد الذي ظللت أصفُ نفسي بالصلافة والقوة، وبالصخرة التي تتحطم الدنيا عليها، صرتُ حبة زبيبٍ طرية، حتى فاطمة الصغيرة يمكنها أن تهرسها، فقدتُ نظام وفقدتُ معها نظام حياتي وسكون روحي.

كتابة هذه القصة ونشرها أشجعُ شيء في الجبن، لأني أُعطيها هنا قليلاً من حقها بالكلمات، حبراً وقلماً وورقاً، لا كرجل بأفعاله. وما جدوى رثائها الآن وتعويضها بالكلام وقد ذهبت؟

لما تركني الرجل في تلك الحديقة، عشتُ بعده أسبوعاً أذكرُ الله وأُقلب النظر في داخلي وما حولي، وما فيَ شيءٌ ثابت، أنا مضطرب وعَليّ حِملٌ لا أفهم سببه، وحيثما قلبت نظري رأيت اسمَ نظام، وصوتها مشوشاً غير واضح، طرفُ صوتها! حملتُ نفسي على الاستماع لسورة يوسف بصوت مُقرئ الأقصى المبارك، محمد رشاد الشريف رحمه الله، إنه رجلٌ غريب وصف أحدهم صوته بأنه "صوتٌ مؤمن"، ولمَا انتهى منها قلتُ لازمٌ عليّ أن أعرف قولَ ابن عربي في هذه القصة، ألم تُخبرني نظام، صديقتي العزيزة، بأن لقبه "الشيخ الأكبر" و"أستاذ الحب"؟ أنا بسيطٌ لا أقرأ الكتب، فكيف لي بفهم ابن عربي؟ فتراجعت واستمعت لمُختارات من كتابه العظيم "الفتوحات المكية"، ولأول مرة أفهمُ لوحدي شيئاً يقوله ابن عربي.

أتبعت الفتوحات ببضعِ قصائد من "ترجمان الأشواق"، فوجدتُ في لسانِ ابن عربي سلوةً وأنساً شرحَ صدري كانفتاح نهرٍ على بحر! وصارت صورة نظام في خيالي جالبةً للنور. وظلت تتردد علي كثيراً ففتوحات ابن عربي شغلت بالي، أقصدُ خيالها الذي شعرتُ بأنه خيالٌ حقيقي، وأننا نتحدث وجهاً لوجه كما كنا نفعل في بَهو الفندق الذي لا حلوَ فيه إلا نِظام، قرة عيني. صدق أو لا تصدق، أو اعتبر هذه القصة خيالاً أو فانتازيا، هذا ما حصل. مهلاً، لا تعتبرها خيالاً، تبّت يدك إن فعلت، فهي ليست كذلك، أرجو أن لا تُقرأ قصتي، الغاصة بالألم، على أنها مبتذلة ومصطنعة، ما يكتب هنا حقيقي وموجود.

بعدَ ذلك، عرفتُ أنَ لي شيئاً في قلب نِظام، ولها قلبي، كلُ قلبي، ولا تَلمني على تكرار اسمها، أحب ذكره. مدَدت إجازة العمل وذهبت خائفاً لرؤية نظام في بلدها. قالت لي قابلني في المقهى الفلاني، "بسيط وله تاريخ ثقافي وفني سيُعجبك"، وأنا كنت أحدث نفسي بأنها هيَ التاريخ والثقافة والفن، وما عداها "بطيخ وشمام".

يا وَيلي! لما رأيتها تألَمَ وجهي من اتساع ابتسامتي، و"يا لطيف"، قلبي صارَ نبضه "يا لطيف يا لطيف"، كانت أجمل ألفَ مرة بل آلاف المرات! منذ آخر مرة رأيتها فيها.

كانت عادية والآن حسناء فارعة الجمال! ملعون الحب ووَهم الحب كم يلعب بنا. شعرتُ أن وجهها الشمس والقمر معاً، ولمستُ في قلبها الموج وارتداده على صخرِ الشاطئ. رأيت فيها ملحمةً لم أفهم موقعي فيها.

جلسنا، ولم أنوِ إخبارها بحُبي لها. تقول عني: مُغفل، صحيح، لا أشك في ذلك، ولا أشك في أن عيوني فضحتني. بعدُ لم أفهم هل أحبها حقاً أم أتوهمُ الحب؟ أم كنت أصلاً أتوهمُ أن خيالها زارني؟ بهجةُ قلبي المُفاجئة كانت تقول لي: أنت تحبها، لا تتردد، لا تكن جافاً واترك عقلك جانباً.

سِرتُ برزانة وهدوء مُصطنعين نحو الطاولة، جلست وحاولت بظرافتي المعهودة تلطيفَ الجو، على الأقل جوي المتوتر أما هي فلم يبدُ عليها توتر أو ارتباك، سألتها:"أي أوامر؟ طلبات يا أستاذة؟ ماذا تريدين أن تشربي"، تبادلنا الكلام التافه في بداية كل محادثة كيفَ الحال وكيف كذا وكذا، ولساني منعقد، يُجيب فقط بالحمد لله. الحمد لله. قاطعتها: لديّ شيء مهم أقوله لك. حصلَ شيءٌ لم أعرف هل حق هوَ أم وهم: وسردتُ قصة الحديقة مع ذلك الرجل الذي لم أعرفه.

إذا اعتقدتَ أني سأخبرها بحبي في تلك اللقطة فأنت أحمق بالطبع. أنا، بكل صلابتي وعنفي أخبرها بحبي هكذا؟ دون أي اختبار؟ طيبٌ طيب، تبين بعد ثوانٍ أني، لا صلبٌ ولا أي شيء من ذلك؟ انفتحت دموعُ نظام للقصة ولكنها كانت تهطلُ في قلبي، كنتُ سعيداً وحزيناً في آنٍ واحد! وارتبكت بيني وبين نفسي: لمَ رأيتها حسناء ومُبهجة حتى وهي تبكي؟ لمَ رأيت الطفلة نظام لا نِظام الجادة العميقة؟ كانت براءتها أبعد بكثير من أن تُحتمل، وأطلقت علي شيئاً لم أُدرك حينها، لغمرَة المشاعر والحب، أنهُ لغمٌ محسوب، انفجرَ اللغم لا حطاماً، ولكن ورداً وريحاناً في وجهي.

(8)

"فلان/ـة مختلف/ـة"، كلمة يقولها أي عاشق عن معشوقه في بداية علاقتهما. أما أنا فأقول بعد انتهاء علاقتنا إن نظام مختلفة وفريدة. مررت بتجارب حب عديدة قبلها، لكن ما عشته مع نظام كانَ مختلفاً تماماً، أجمل وأبهى من أي شعور آخر! ومعها تذوقتُ الحب لأول مرة. كنتُ أظن أني أعرف ما الحب، كنت! كل ما عرفته عن الحب كان وهماً، لم يكن حباً، حتى جاءت ياسمينة قلبي نظام، وعرفتُ معها أني لم أُحبَ ولم أُحَبَ من قبل.

علاقتنا كانت مخيفة. مخيفة يَعني مخيفة. نظام كانت تعرفني جيداً جداً، أكثرَ من نفسي، وهذا يُشعرني بأني منكشف ومفتوح الأبواب، وإذا وجدتَ نفسكَ كتاباً مفتوحاً بين يَدي شخص ما، ستشعرُ بالخطر، وستقفز مؤشرات الخوف عالياً عندما يخرج الأمر عن السيطرة؛ حين لا تقدر على إغلاق الكتاب ويتخللك الآخر تماماً، يُصبح كلك وتصبح كله. نظام مرآتي، مرآة نفسي بكل ما في من جمال وقبح. وجود شخصٍ مثلها في حياتك أمرٌ صعب شعورياً، ولكن الحب، ما ألذ الحب، يطمسُ كل خوف وصعب.

ما الصعب في علاقة كهذه؟ الصعب أن تفهم القوة النفسية الخارقة لدى الآخر: كيف لكَ أن تفهمني هكذا؟ ولماذا يسهلُ عليَ فهمكِ هكذا؟ لماذا نبدو شفافين كماء نهر صغير لا تعكره حتى ذرة تراب، ماءٌ ترى كل ما تحته، حتى النقش الذي نُحت على حصى صغيرة! وتشعرُ لأول مرة بأنك صافٍ ونقي من الداخل إلى هذا الحد، حد أن تُفهم مباشرة وبوضوح.

هذه العلاقة معبأة بألغام الورود، تصدمك وتدهشك على غفلة. تمددنا مرة على الأرض ونظرنا نحو السماء، (هذه المواقف الرومانسية غريبة ومُربكة، لا أرتاح في التعاطي معها).

وسألتها ببساطة: ما لون السماء؟
– فردَت السؤال: أنت ما رأيك؟
– استعباطاً قلت: خضراء!
– كما تقول يا محبوبي.
– "كما تقول"؟ لماذا كما أقول؟
– لأنك قد تغير رأيك في لون السماء، وعندما تفعل أريد لرأيي أن يظلَ موافقاً لرأيك.

كل هذا كان عادياً، ما لم يكن مألوفاً ولا متوقعاً أن أكون سعيداً معها دائما دائما، وطوال الوقت، دونَ أي لحظة حزن! دون أي ندم ولا تردد! دائماً كنا مباشرين وصريحين، وكل موقف يحمل معها بهجة أكبر ومحبة أعمق، كلما تقدم الوقت ونحن معاً كنت أشعرُ بها تكتنزني، تتخمر بمحبتها فيَ وتتخللني.

وهذا أمرٌ آخر لم يكن مفهوماً، بالذات لفلسطيني مثلي علمه المجتمع أن النكد آتٍ لا محالة مع أي زواج، فما بالك إذا تزوَجت فتاةً غير فلسطينية؟ كان زواجنا محكوماً بالفشل التام وفقاً لمعايير مجتمعنا، ولكن ما حصل نقيضُ ذلك تماماً.

إذا أردت أن تقول "فانتازيا" لن أعاتبك على ذلك، نعم، كانت فانتازيا ولكن حقيقية، وهذا ما لم أستطع تصديقه مثلك تماماً! أخبرني أعز أصدقائي أنَ هذا وهم، يعيشه كل زوج في الشهور الأولى. مرَ عامان وعدتُ له للمرة العاشرة أخبره بأن الوَهم صار حقيقة، وفانتازيا الروايات وقصة مجنون ليلى تحققت معي. عامان وأكثر من السعادة المطلقة! كانت ملاذي السري في الدنيا.

تذكر الكلام الذي تسمعه في الأعراس: يلا تورَطت! اشرب من نفس الكأس! نقول هذا الكلام مزاحاً ولكنه جِدٌ لا هزل فيه. جعلتني نظام أُسائل نفسي: هل أستحق كل هذا؟ وأدركت سريعاً أن نظام أعظمُ نعمةٍ منَ الله عليَ بها.

بأصابعها اللطيفة والرفيعة أشارت بالرقم 3، وقالت لي الحب عند شيخنا، ابن عربي، على ثلاثة أنواع، قُم واعتدل هذا درس جديد ستحبه. جلستُ أمامها وقطَبتُ جبينيَ كإشارة جدية لأسمع، فكلما ذَكَرَتْ ابن عربي رفَ قلبي لأتعلم أكثر عن الشيخ الأكبر والعاشق الكوني.

– الحب 3 أنواع.. أقاطعها: أيوة فهمت انهم ثلاث، اشرحيهم.
أولها وأهمها يا محبوبي الحب الإلهي، حُب الله لك وحبك له، هذه العلاقة الأقدس والأصدق، والتي من أجلها خلق الله الكون وخلقك فيه وقال لنا: تعالوا إليَ! " يا ابن آدم قم إليَ أمشي إليك، وامش إلي أهرول إليك".

– لكن كيف يا نظام؟ سمعتُ هذا الكلام كثيرا من المؤمنين من كل الأديان، حتى من لادينيين!
تمهل واسمع، السر في الحب الثاني والثالث. الحبُ الثالث اسمه "الحب الطبيعي" أو "الجسماني"، وهو أقل أنواع الحب رتبة، ولا تعتبرهُ سيئاً لأنه أقل في الرتبة، بل هو البوابة نحو الأعلى منه، وتفسير هذا الحب أنك تحبُ الآخر لأنك ترى نفسك فيه، ترى نفسكَ جميلاً وذا أثر طيب على مَن تُحب، أنت لا تحبه، أنت تُحب أنك جيد معه. ولكنه حب مفيد!

– أنا دخلت في الحيط، كيف مفيد وأنا أحب الآخر لأني أحب أن أرى نفسي جيداً؟

بسيطة. مفيد لأنه المسار الطبيعي نحو الحب الثاني، "الحب الروحاني". ما الرابط بينهما؟ عندما تُحب الآخر لأنه يُشعرك أنك جيد وطيب، تبدأ بإدراك نفسك وذاتك من منظور مختلف، تدرك نفسك من خلال مَن تُحب، وهنا أمرٌ هام، أن تدركَ أنك "آخر" مُنفصل عن من تحب. أنكما لستما واحداً بالدرجة التي تعتقدها. هنا ستبدأ بالسعي نحو الحب الروحاني، أن تحبَ الآخر لذاته، أن تحبه هو حقاً، لا أن تُحب نفسك أو تجلياتك أو شيئاً جميلاً فيه، تحبه لذاته، بغض النظر عن الأشياء السيئة فيه عدا عن الأشياء الجيدة.

تحبه هو، مجرداً من كل شيء آخر، تحب ذاته، هنا تصيرُ "أنتَ أنا". عندما تحب الآخر بهذه الطريقة لن تطلب إلا مرضاته وأن يكون سعيداً، ولو داسك بالأقدام! المهم أن يكون سعيداً، لأنك لا تنظر لأي شيء سوى ذاته، الجميلة التي نوَرت قلبك ورأيت من خلالها الله.

ابتسمتُ أنا ابتسامة بلهاء أو ذكية، أياً يكن، ابتسمت، لأني فهمتُ أشياء كثيرة من كلامها، وفهمتُ أهمية الحب الأول، الإلهي، وأن الحب الجسماني بوابةٌ للروحي، ومن خلال الروحي، يَعني بِحُبِي لنظام، سينفتح لي بابٌ نحو الله جل وعلا. ولقد شعرتُ بذلك قبل أن تخبرني بهذه الأنواع، شعرتُ بأن حبي لها انفتاحٌ على نوع جديد من العبادة، وأن علاقتي بالله اختلفت بعدها.

أليسَ طبيعياً أن يحصل كل هذا إذا وجدتَ حبيباً شفافاً ومرآة كنظام؟ ستتغير كثيراً بوجود شخص مثلها. عرفتُ الله معرفةً حقة عندما أحببت عينَ الشمس حبيبتي نِظام.

مهما سبحت في تصورك لجمال ورقة ورفاعة روحها، لن تُدرك ما أتحدث عنه، وجدتُ شخصاً يثق في نفسه أكثرَ مني، واعية، وراقية جداً، من ذلك النوع العريق من "السيدات الذوات"، كانت سيدة فاخرة -وأستميحها المعذرة على استخدام وصف فاخرة هنا فقد كان يستفزها-، والأخطر من كل ذلك: إنكارها المهول لذاتها أشعرني دائماً بأنه خطيرٌ عليها وقد يؤذيها لاحقاً. الزواج طبعاً يكون بينَ اثنين، أما في حالتنا فقد ذابت هي تماماً.

قبل الطلاق كانت تراجع نفسها: هل استعجلنا؟ هل كان زواجنا خطأً؟ أم أننا احتجنا إلى وقت أطول للتعرف على بعضنا البعض. لا، لم نستعجل، ولم يكن خطأً وكانت تعرفني وتعرف روحي وكأننا عشاق قبل أن نُولد، قلوبنا تعارفت قديماً جداً. افترقنا لأني رجلٌ رديء. لا أكثر ولا أقل، والمجتمع والدين والأفكار التقدمية و.. وكل هذا الهراء لم يكن إلا قناعاً لتغطية مشاعري السيئة وضعفي. ضعفي الذي أنكرته دائماً، وأخافني أن أراه واضحاً في مرآتي نِظام. كانت أول مرة أشعرُ بأني متورط عاطفياً في علاقة.

متورط ومنغمس في العلاقة. نعم كنت أخاف من الحب، لأنه مُذل للإنسان، طوال عمري رفضتُ أن أتعلق بشيء أو شخص. التعلق يعني الضعف، لأن كل موجود سيُفقد، كل محبوب سيرحل، كل أمٍ ستموت وكل صديق سيُشغل، هذه هي الحياة، فلمَ عليَ أن أتعلق بإنسان سيموت أو شيء سينتهي؟

أي شيء لا أستطيع التخلي عنه خلال ثلاث ثوانٍ من اتخاذي لقرار تركه، كانت نفسي تهتز منه وترصده على أنه "عالي الخطورة" بل و"مُشع"، لأن التعلق بشيء واحد سيجلب تعلقاً بأشياء أخرى.

غبي! غبي طوال عمري كنت غبياً! غبي وأبله، الآن أدركت ذلك، إلى أين ستأخذني هذه القناعة البلهاء والسطحية؟ إلى مقعدٍ خشبي هزاز أجلسُ عليه لوحدي وأنتظر متحرقاً اتصالاً من حفيد أو ابن في بلد بعيد؟ أم مقبوراً في منزلي القديم منتظراً صديقاً عجوزاً، وأبلهَ مثلي، فقدَ كل من يحب بسبب قناعة ضحلة وعفنة كقناعتي هذه.

"مُحاربة من أجل الحب"، هذا تعريفها الحقيقي، ولأجل الحب تحرقُ كل شيء آخر. لم يكن في حياتها شخصٌ غيري، تذهبُ إلى العمل وتعود منه وأنا في عقلها، لا صديقات، ولا أهل، ولا زملاء، كنتُ "مجتمعها" و"أسرتها" وكل شيء تعيش فيه ومن أجله.

(9)

أعلمُ أن كلامي عن الطلاق يبدو وكأنه أمرٌ عادي، أو حدثٌ طبيعي، لكنه لم يكن كذلك، للأسف.

كانَ أصعبَ يومٍ في حياتي حتى الآن، عجزتُ لأول مرة أن أقول كلاماً متماسكاً بثقة. لم تترك لي نظام أي فرصة لأراوغ، وألقت حجارةَ حججها عليَ من عِلٍ فشلَت لساني وقصمت ظهري.

ولا منفذَ لي سوى حسن ظنها! تفهمت لمَ أردت الطلاق منها وإن كانت أسبابي واهية، ولم تشأ أن تجبرني على التواجد معها ما دمتُ لا أريد ذلك، وظلَت تسألني: أينَ أخطأت، هل قصَرت معك؟ أم أني أحببتك أكثر من اللازم فخفت مني؟ ماذا علي أن أفعل، "سأعيش من أجلك في الخفاء، وسأكون الملاذ الآمن لك"، كانت لي "البيت الذي أعودُ له شوقاً لا اضطراراً".

لم أملك ولا حتى جواباً واحداً لأدافع عن نفسي. لأني كنت أعرف أن الجواب الوحيد هو أني ضعيف وجبان. لم تقصر معي في أي شيء، ولم أحزن معها للحظة واحدة، إذاً حجة "النكد" غير معقولة. ماذا عن معركتها مع المجتمع والجِوار والعالم من أجلي؟ أقسمت لي أنها مستعدة لتحمل أي شيء من أي أحد لأجل حبي.

ووجدت نفسي في موقف ملعون، وفهمت لأول مرة لمَ اعتبر الإسلام الطلاق أبغضَ الحلال إلى الله، هذا من جانب، ومن الجانب الآخر لم أجد حولي من أستشيره ويمكن أن يتفهم موقفي، وحبي العارم لنظام وحبها المُحيط لي، تعقيدات الموقف كانت أكبر مني بكثير لدرجة أني أنا نفسي لم أدرك ذلك ولم أفهم ما يحصل إلا بعد انتهائه.

بعد أن انتهى كل شيء عرفتُ أن العقل ألعن نعمة في الكون. نعمة تخنقُ نبوع الجنة التي تصبُ ألوانها في الحياة الدنيا. قتلني العقل، ولم أترك لقلبي الفرصة ليقودني نحو ما يُريده الله له. زَمَان، كانت قراراتي مزيجاً بين عقلٍ وقلب، مذبذبة بينهما مع طغيان عقلي في النهاية، لكن في كل مرة لم أستجب فيها لقلبي ندمتُ لاحقاً.

الآن، لا أدري! هل أنا نادم بعد تركي لسيدتي وحسناء الدنيا؟ نعم أنا نادم، وأبعد من ذلك أنا غاضب جداً إلى حد لا يطاق، لقد هدم طلاقنا كل شيء آمنت فيه عن نفسي وعن المجتمع، وحتى عن بعض قناعاتي الدينية التي لا تمت للدين بصلة؛ لأنها قناعات ميتة الروح والأخلاق، لا لا، أهم ما هدمته علاقتنا وفراقنا وهم القوة الذي غطيت به نفسي، أنا ضعيفٌ جداً، ليرحم الله ضعفي.

أي رجل يمكنه أن يُجيب على أسئلة كهذه: "هل ستطلقني من أجل الناس؟ من أجل العادات والتقاليد؟ من أجل المجتمع الذي يحبذ الزنا على التعدد؟ لا يهمني شيء من كل هذا. ستطلقني؟ طلقني لكن أنا موجودة ومُحاربة من أجل الحب"، كانت تُحاول إيقاظي، تقول لي أنت المسؤول عن قرارك: ستخسر كل شيء إذا لم تتخذ القرار الحقيقي الذي يقوله قلبك، وأنا تجاهلت تنبيهاتها ورسائلها، والأسوأ: تجاهلتُ حبي لها وتعجرفت على حبها لي ومضيت.

"أنتِ طالق". ثمَ انهيار، بكاء بكاء، لم تُمطر السماء ولا جفَت المحيطات، لكن قلبي فَعَل، انكمش واختفى من مكانه. أنا رجلٌ بلا قلب! أنا فارغ الفؤاد! أبحث عنه لأربت عليه، لكن لا أجده.

قبل أن أقول كلمة الطلاق طلبت مني أن نقضي تلك الليلة معاً؛ لنخرج إلى الشارع نتحدث ونتذكر ما كان بيننا ونفكر فيه، كله كان جميلاً، وكلما تذكرنا موقفاً بدا لنا أجمل من الذي قبله.

"أنتِ طالق"، ما هذا؟ ما القوة التي تمتلكها الكلمات؟ أن تُنطق كلمة فتلغي حياة كاملة وعالماً كاملاً، ومخزن ذكريات ضخمٍ في إنسان! أنتِ طالق، ببساطة. ثمَ يقفزُ شابٌ تافه ليقلل من شأن الكلمات وأثرها. نحنُ نتاج الكلمات، كل واقعنا كلمات.

لماذا طلبتُ منها الطلاق؟ اتركني أحدثك بصراحة ووضوح. كانت نظام زوجتي الثانية. لماذا رغم الحب المطلق أردت الطلاق؟ حدثني وأنا الجريء المُغامر عن الخوف من التغيير، حدثني عن خوفي على سمعتي، وعلى صورتي العامة، وعلى علاقاتي وواقعي. حدثني عن إيماني بكل هذه الأوهام بدلاً من الحب الذي تلمسه يدي وينبضُ به الكون من حولي.

مَن كان له أن يساعدني في موقفٍ كهذا؟ أحب امرأتين، وكلتاهما زوجَتي، الأولى أعلنت زواجي بها أمام الجميع، والثانية لا يعرفُ بزواجها إلا أمها ومقربوها.
هل كنت مريضاً نفسياً؟ هل لدي شخصيتان؟ عقلاني حاد، وعاطفي كشفَ لي فجأة أني طفل. تسألني "هل أخطأنا؟ هل التزامنا بعاداتنا وتقاليدنا هو الأسلم؟"، تقطَعت بل كنت أشلاءً.

أنا انكسرت. بعد أن تركتها، بدأت أرى أن الناس، وعلاقاتنا، والحب! أثمن من كل أفكارنا وقناعتنا السيئة. نعم قناعاتنا أقنعة! لمشاعرنا السيئة والرديئة، بل "الكلبة".

زوجتي الأولى ترى أنها لا تستحقني، والثانية، ترجوني أن أخبرها بما أريد لتُلبي، وأنا حائر كأن الكون ما فيه غيري ضائع.

ببساطة وبوضوح مطلق: أنا جبان. هي كانت مستعدة لمواجهة العالم أما أنا فلا، لستُ مستعداً لخوض حربٍ مع أسرتي الكبيرة، ومع أسرتي الصغيرة، صفائي الجميلة، وثقتها الكبيرة في، لن أهزها دون أن أتأكد من أن ما أفعله صحيحٌ 100%. التردد قتلني واستهلكني، ولن أعيش به ولن تعيشيه معي، وأنا أعلم أني خاسر. "ستنطلقين مجددا"، هكذا أرقع الأمر وأسلك لنفسي، وأنا أعرف أنها، بالتأكيد! ستنطلق مجدداً، لكن انطلاقتي لن تكون سهلة أبداً.

طلقتها ولم أخبرها بكل هذا، لم أصرح عن الحق؛ لأن الحق في موقفي هذا باطلٌ باطل.

لست قوياً كفاية لمواجهة ضغط المجتمع، ولا لتجاهل همس الناس الأسود المغبر القادم من كل زاوية، هَه؟ ما هذا العذر؟ أنا ضعيف، هذا جوابي يا أحلى حُلوة ويا مخلوقةً خلقنا الله لنلتقي.

طلقتها حتى لا تخرب صورتي، مَن أنا؟ وما "صورتي" المتوَهمة هذه؟ لا أعرف.

حزني على فراق أخي الصغير كان كبيراً، جداً، ومؤلماً لم أستطع إلا مجاراته، أو مداراته، أقول له كل يوم: نَم يا وجع، نَم يا ألمي، رحلَ ولن يعود. أما حزن فراق نظام فأكبر؛ لأني رحلتُ عنها باختياري، بسبب فراقنا أصابني أكبر حزن في حياتي، وبكيت عميقاً، وأنا أضحك في العمل أمام الزملاء وأمازحهم كالمعتاد، ولم يشعر أحد. أمطرت السماء ولم تُمطر، هاجَ البحر ولم يهج، ورأيت الآخرة أمامي.

كلمة الطلاق كانت رصاصة الموت، مَوتي لا موتها. فهمت الآن لمَ كانَ الشعراء أجبن الخلق! هُم مثلي يخشون الأفعال ثم يعودون بالكلام، لأول مرة في حياتي قررت أن أكتب؛ لأني أملك مشاعر لا أجد مَن يستحقها، سواها.

جبل زُرع في حلقي، يخنقني ويمنع تنفسي، وكلما تذكرت حضن الوداع انشق كل ما في. دافئٌ ولكن قاسٍ جداً مزَقني تمزيقاً.

لقد فقدتُ أماً قبل أن تموت أمي، وفقدتُ كوناً قبل أن أموتَ أنا. فاطمة لا تقبل أن تنام إلا أن أضعها بالسرير، وعندما أعود من السفر ترفضُ إلا أن تنام في حجري، أنا لا أريد شيئاً سوى أن أعودَ طفلاً أنام على صدر أمي، وتهدهد رأسي. وأنا أبكم أخرس، يحبُ قلبي كل الناس ببراءة وسذاجة، لا أريد أن أتورط في موقف كالذي تورطت فيه، هل الحياة ظالمة؟ هل يجب أن تكون معاركنا صفرية: إما أن تفقد من تُحب وإما أن تفقد كل شيء آخر.

لنقُل سراً صغيراً: نظام اسمُ محبوبة ابن عربي، التي تركها ولم يُعرف لمَ تركها، ثم هامَ قلبه وأطلق لسانه يمدحها ويصفُ حبه لها. أنا موجوع مثله، لكن لساني مقيد. أنا امتداد لوجعه، والمحبّون من بعدي امتدادٌ لوجعي.

هل أقول: منك لله يا قلبي، كيف تجرأت واستمعت لعقلي فأبكيتني دماً؟ أم أنصحكم بما يقوله عقلي؟ اكسروا قلوبكم واقمعوها وابقوا في أمان العقل تنعموا!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد