قبل ستة أعوام كنت كعادتي أجلس قبالة التليفزيون وأتنقل بين القنوات من وثائقية إلى أخرى، أبحث عن برنامج يروقني من تلك البرامج الوثائقية بالذات، حتى توقفتُ عند برنامج كان يتناول ظاهرة الاحتباس الحراري بشيء من التوقعات القاتمة عن مستقبلنا كبشر وعن مستقبل كوكبنا.
لم أكن أعلم وقتها عن هذه الظاهرة أكثر من كونها مادة غنية ضمن برنامج وثائقي ممتع، لكن منذ أن شاهدت ذاك البرنامج الذي تناول الظاهرة بكثير من الحقائق والأرقام والظواهر المتعلقة بها، وكثير أيضاً من المتعة والتشويق وأنا من حينها يشدّني كل موضوع يتناول ظاهرة الاحتباس الحراري، حتى بتّ أقرأ المواضيع التي تتناول الظاهرة والمقالات والبحوث، الأمر الذي قادني لأن أكتشف كم نحن غافلون عن تغير المناخ وتطرفّه، وعن احترار الأرض ومدى خطورة ذلك، وبأنه وصل إلى درجة حرجة للغاية.
هنا تحول اهتمامي من السياسة والاقتصاد إلى الاحتباس الحراري مدفوعاً من كون الظاهرة باتت تؤثر علينا كجماعات وأفراد تأثيراً مباشراً دون علمنا بذلك، وأدركت حينها أن المسائل السياسية والأحوال الاقتصادية التي تهم كل البشرية لن يكون لها وزن أو قيمة فيما لو تم جعل هذه الظاهرة في أسفل قائمة الأولويات.
بعض الأسئلة
هنا بعض الأسئلة -عزيزي القارئ- التي ستدخلنا مباشرة في لبّ المسألة مسهلة بذلك علينا عناء الفهم، ما قيمة نشوب حرب مثلاً وانتصار أحد الأطراف، بينما الواضح أن ظاهرة الاحتباس الحراري ستدمر مستقبل الطرفين؟
ما قيمة تخرّجك في الجامعة بتفوّق وأن تصبح من حملة الشهادات النادرة وأنت وذاك المشرد ستقضي تلك الظاهرة على مستقبلكما بنفس الدرجة من السوء والخطورة؟
بإمكانك -عزيزي القارئ- أن تسأل نفسك أسئلة كثيرة مماثلة عن ظاهرة الاحتباس الحراري، سواء على المستوى الجمعي أو على مستواك كفرد؛ لكي تكتشف ما مدى خطورة الأمر، وستكتشف أيضاً أن هذه الظاهرة عالمية وهي في طريقها لوضع "البشر قاطبة في هاوية حرجة جديدة أطلقتُ عليها "البؤس العالمي غير النسبي وهو ما تحدثت عنه في كتابي الذي كان ثمرة لتلك الاهتمامات والجهود الجد متواضعة، والذي نشرته في 2015 تحت عنوان "الاحتباس الحراري والرأسمالية العالمية".
لقد طرحت خلاله نظرية مفادها أن سبب احترار الأرض وتفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري هو النظام الرأسمالي العالمي، الذي أهمل البيئة لصالح تعظيم الأرباح وزيادة الإنتاجية الحدية، حقيقة لم يرَ الكتاب رواجاً يُذكَر وقد طبعته ووزعته على حسابي الخاص، ربما لأن معظمنا ما زال يعتبر الظاهرة كمادة دسمة في برنامج وثائقي.
البؤس العالمي غير النسبي
الذي نقصده هنا هو أن هذه الظاهرة لن تفرّق بين مجتمع غنيّ ومجتمع فقير، هي ظاهرة عالمية تصيب كوكب الأرض كوحدة واحدة مغيرة بذلك مناخه بالكامل وطقوس المناطق المختلفة على سطحه، فمثلاً البائس أو المشرد الذي يعيش على الأرصفة في زيمبابوي لا يمكن أن نقارنه بالبائس أو المشرد الذي يعيش على الأرصفة في الولايات المتحدة الأميركية، لكن مع تغيّر المناخ والاستمرار في احترار الأرض لن يكون هناك أي فرق بين البائس الذي بات يعاني جراء تطرف المناخ وأي بائس موجود في أي مكان على الكوكب، علاوة على أن البؤس سيصيب كل طبقات المجتمع دون تفرقة، سيعانون جميعاً من تغير مواعيد الأمطار وتأخرها وطول فصل الصيف وقصر فصل الشتاء والربيع، وزيادة درجات الحرارة وزيادة حدة وكمية الأعاصير، وغيرها من الظواهر المناخية المتطرفة.
إذاً هي ظاهرة شمولية تحوّل جميع البشر إلى بائسين بغضّ النظر عن مستواهم المعيشي، قد نتحكم في مناخ المنزل أو السيارة أو المكتب، لكن لا يمكن أن نتحكم في مناخ المنطقة التي نعيش فيها، خاصة فصليّ الصيف والشتاء، بحيث يتحول الصيف إلى أكثر جفافاً وطولاً، والشتاء إلى أكثر غزارةً وتقلصاً، فبينما ستعاني مناطق كانت مصنّفة صحراوية جافة من الفيضانات ستعاني مناطق أخرى كانت مصنّفة معتدلة ورطبة من الجفاف والمحل، هنا ستكون عواصف أكثر منها أمطاراً بينما تتبدل مواعيد المطر كلياً وتختفي فترات الربيع، أو تتقلص ويختفي الغطاء النباتي الربيعي بسرعة كبيرة في أحسن الأحوال.
وكل ذلك سيؤثر تأثيراً بالغاً على أسعار الغذاء من الخضر والفواكه والحبوب واللحوم، لكن ربما أن الفارق الأهم سيكون بين تلك الدول المنهمكة الآن بخلق قاعدة بيانات هائلة حول الظاهرة وبين تلك الدول التي لا تريد أن تعلم شيئاً عنها بعد.
معضلة البقرة والفراشة
إن أهم الغازات الدفيئة تأثيراً في ظاهرة الاحتباس الحراري غازا ثاني أكسيد الكربون والميثان، فبينما يتعلق غاز ثاني أكسيد الكربون بتلك الأنشطة البشرية المرتبطة بالصناعة، يتعلق غاز الميثان بتلك الأنشطة البشرية المرتبطة بتربية الماشية وخاصة الأبقار، وتكمن المعضلة الحقيقية باعتبار لحوم الأبقار من أهم مواردنا لسدّ حاجة سكان الكوكب من البروتين الحيواني، بينما تعتبر البقرة المسؤول الأكبر عن إنتاج غاز الميثان خلال زفيرها وهي تشتر العشب.
الذي يفوق تأثيره 28 ضعفاً تأثير غاز ثاني أكسيد الكربون على ظاهرة الاحتباس الحراري واحترار الكوكب، وتتطلب تربية الأبقار التي يتزايد يومياً الطلب العالمي على لحومها قطع الغابات لإيجاد رقع أرضية لإنشاء مزارع التربية والتسمين عليها، وأيضاً لإيجاد رقع أرضية أخرى بهدف تحويلها إلى مراعٍ للأبقار أو مزارع لزراعة أعلافها.
بينما تشكل الغابات التي يتم التخلص من أجزاء كبيرة منها يومياً الرئة الثانية للأرض بعد المحيطات والبحار، والتي تخلصنا من غاز ثاني أكسيد الكربون، ذلك كان مثالاً من أمثلة كثيرة مشابهة تتعلق بالصناعة والزراعة والبحار والمحيطات وكلها تواجه معضلة حقيقية كمعضلة البقرة عندما يتم ربطها بظاهرة الاحتباس الحراري.
عزيزي القارئ، لا يمكن اختزال الظاهرة وتبعاتها الخطيرة في مقال مماثل، لكن نحاول من خلال ذلك أن نُحدث تأثيراً يكون مشابهاً لمبدأ تأثير الفراشة، وقد يكون تأثيراً كبيراً جداً فيما لو تحدثنا عن تلك الظاهرة في مجالسنا أو مع أصدقائنا أو لأبنائنا بدل أن نتحدث عن أحوالنا السياسية والاقتصادية، ربما؟ أنا أعتقد ذلك وأؤمن به كثيراً، لا بد أن يكون لذلك أثر تراكمي هائل.
خيبة أمل!
عندما ذهبت يوماً لمقابلة الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي undp بأبوظبي في الإمارات العربية المتحدة، السيد فرودي مورينغ، ضمن برنامج تليفزيوني لأعرض عليه نشاط منظمة قمت بإنشائها مع مجموعة من الناشطين البيئيين أطلقتُ عليها "منظمة مراقبو الاحترار Warming Observers حيث بدأنا بإمكانياتنا البسيطة والذاتية بإلقاء محاضرات تفاعلية توعوية عن ظاهرة الاحتباس الحراري، تستهدف طلاب المراحل الدراسية الأساسية؛ الابتدائية والمتوسطة والثانوية، بحكم أنهم قادة المستقبل، منطلقين من مبدأ تأثير الفراشة، قال لي السيد مورينغ وقتها إننا تأخرنا كثيراً، فالظاهرة وكما يبدو في مراحلها الأخيرة للإجهاز على كوكبنا، وأننا نعمل في الوقت الضائع.
حقيقة -عزيزي القارئ- لم يصِبني ذلك بخيبة أمل، خاصة أننا بحاجة ماسة في منظمتنا الناشئة للدعم المادي والمعنوي على حد سواء، لكن نحن كمنظمة حالنا كحال كل المنظمات البيئية التي تراقب المجتمع الدولي وهو لا ينفك يعقد المؤتمرات البيئية والمناخية الدولية، وآخرها كان مؤتمر باريس للمناخ في 2015، لكننا لا نكاد نرى شيئاً على أرض الواقع سوى العمل الدؤوب ضد البيئة وإنتاج المزيد والمزيد من الغازات الدفيئة المتولدة من حرق الوقود الأحفوري، وكأن الجبال تتمخض فتلد فئراناً.
لن نتوقف عن التوعية، ولن نتوقف عن البحث بين تلك الأمور البسيطة بعيداً عن المؤتمرات الدولية علّنا نجد الحل، وربما أن ذلك ما سيساعدنا على إحداث الفرق حين ننشئ جيلاً أقل استهلاكاً للحوم الأبقار وزبدة النوتيلا وأكثر احتراماً للبيئة ولكوكبنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.