إلى من قالت لي يوماَ.. اتخذي الحقّ سلاحاً وامضي

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/22 الساعة 02:54 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/22 الساعة 02:54 بتوقيت غرينتش

ضمن تفاصيل الحياة المبتذلة، وما تحوي من شخوص مصطنعة تنفثُ سموماً تتسلل إلى أرواحنا وأجسادنا؛ لتحاول تشويه ما تبقّى فينا من أخلاق وإنسانيّة، صوتها "هي" وحدها يعبر ترياقاً وسط تلك الضوضاء، باثّاً فينا من القوّة والإصرار والتفاؤل ما يكفي لنمضي عمراً آخر أقوياء دون أن نخشى شيئاً، تقوم على تحفيزنا لنحيا الحياة كما يجب، لا كما لبثناها عليه.

وجودها هو رأفة الله بنا، جعل منها سنداً نتكئ عليه عندما نكون في غياهب الضعف، وبثّ في يديها العافية عندما يشتدّ المرض علينا، ونثر بذور البشاشة بين قسمات وجهها؛ لتزهر تفاؤلاً وأملاً عندما يثقل الهمّ والحزن كاهلنا، وبثّ في عقلها من الحكمة ما يكفي للنُّصح عندما نقع في حيرةٍ من أمرنا غير قادرين على اتخاذ قرار صائب، وغرس في قلبها من المحبة ما يغمرنا لسنوات عمرنا البقيّة، وجعل من حضنها مأوى يضمّنا عندما يتسرّب الخوف إلى قلوبنا، وبسطَ فيها ذلك الأمان الإلهي الذي تغمرنا به دون أن ندري عبر رضاها ودعواتها التي لا تكفّ عن ترديدها.

أتعجّب لمن يرى أن وجودها بات من المسلّمات، وأنّ أقصى مهامّها هي تأهيل أطفالها للحياة ضمن مراحلهم العمريّة الأولى، وبمجرّد أن يشتدّ عودههم يتناسون وجودها ويصبح نصحها سخفاً، وقلقها وهماً، ومجالستها عبئاً، ولا يدركون إلا متأخرين أن في نصحها البصيرة لأمور لا تتبادر إلى أذهاننا، وفي قلقها الحبّ الذي لن نجد على هذه الأرض مَن يمنحنا إياه، وفي مجالستها سكينة لا نستطيع أن ندركها إلا ضمن دفء أحاديثها.

هي تلك التي تملك من التناقضات ما يدمي القلب، تستمع لخبر استشهاد ولدها دفاعاً عن وطنه، فتزغرد رغم أنه لو كان مريضاً لبكت وسهرت على وجعه أياماً، وهي نفسها أُم الأسير العالقة بين حسرة الاشتياق وبين انتفاضة الغضب تحيا على أمل تحريره يوماً، وهي ذاتها التي كدّت ليلاً نهاراً بلا كللٍ أو ملل موازنةً بين بيتها وعملها وتعليم أبنائها؛ لتجد أحد أبنائها يوماً يعارض حقوق المرأة ومساواتها معه، متناسياً أن من ربّته امرأة تنظر إليه بفخرٍ ضامرةً ألمها، وهي التي نال منها المرض رغم مصارعتها له لسنوات بكتمان دون أن تخبر أبناءها؛ حتى تلاشت ملامحهم تماماً من ذاكرتها، ولكن معجزة الله في استشعارها بأنهم ينتمون إلى قلبها لا يتلاشى.

وإلى من قالت لي يوماً "اجعلي من الحقّ سلاحاً وامضي دون خوف"، أدرك تماماً ندمك أحياناً لقولك هذا، وأدرك قلقك عندما أورّط نفسي في المشاكل بسبب إصراري على تنفيذ ما ربّيتني عليه دائماً، وأتفهّم غضبك عندما أُقدم على مواجهة الآخرين بلا أيّ تردد، وتفضّلين أحياناً أن ألتزم الصمت خوفاً عليّ، رغم كل ذلك، لن تخفى عليّ تلك السعادة التي تعلو قسمات وجهك، وتحاولين عبثاً إخفاءها عندما تدركين أنني لا أشبه أحداً غيرك.

أدعو الله في كل يوم أن يمنحك وأمهات العالم أجمع العمر المديد، وأتم الصحة والعافية، وأشكر الله كل يوم على نعمة أنك أمّي من بين نساء الأرض، فأنت الأم والصديقة ومدرّبة الحياة ومعلّمتي الأولى والأخيرة، وأشكرك من أعماق قلبي؛ لأنك منحتني حرية الاختيار ضمن قراراتي، وأنّك كنت وما زلت السّبب الأول والأخير لأن أفعل ما أنا على يقينٍ به، وألا أصغي لصغائر الأمور، وأن أسعى دائماً لأن أكون كما أريد أن أكون.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد