في مديح الاستشراق وذمِّه!

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/21 الساعة 03:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/10/06 الساعة 12:04 بتوقيت غرينتش

الاستشراق بالنسبة لي شيء عادي وطبيعي في سياقه، ولذا لا أراه -في عمومه- كعدو لي ولا أريد شيطنته.

وأرى أن المستشرقين ناس عادية جداً تعلمت لغتنا ودرست ديننا وعاداتنا، وتريد أن تجد لنفسها وظيفة أو مكاناً، إما في جامعة أو مؤسسة أو وزارة.

وهم بالنسبة لي مثل طلبة أقسام اللغات الأجنبية في الجامعات المصرية والعربية يدرسون لغة ما وأدبها حتى يجدوا وظيفة أو يعملوا مترجمين.

أما حساسيتنا في التعامل معهم بالذات فمردّها في رأيي وسوسة حضارية نعاني منها منذ قرنين أو ثلاثة!

والغريب أنهم لا ينتبهون -فيما أظن- لما نكتبه عنهم رغم أننا درسنا لغتهم ونكتب مثلهم، وهذا في الغالب لأنهم لا يأخذون الأمور بمثل هذه الحساسية المرضَية التي نعاني منها في نظرتنا للغرب.

وحتى الآن تجد الواحد منا شايل سيف العروبة أو القومية أو الإسلامية ويحارب طواحين الهواء الاستشراقية ومع كل ضربة منه يقول لك "فَبُهتَ الذي كفَر" ويظن أن هذا يكفي. لا المستشرق يستحق ولا الشاهد القرآني يناسبه، فهو -في رأيي- وفي كل الأحوال ليس بكافر!

بالطبع لا بد أن ننتقدهم فكرياً وأدبياً، وهذا ما يفعله بعضنا بالفعل، لكن لا ينبغي أن نأخذ الموضوع على قلوبنا ونكفرهم كلهم! وعلى العموم الحقد يُعمي ويُضل، ستقول لي إن هناك عداء لنا ولديننا سأوافقك مباشرة ولديّ بدل الدليل ألف، ولكن سأقول لك أيضاً: إن هذا هو الطبيعي في حالات التنافس والتدافع. المشكلة كلها أننا لا نجيد المقاومة ولا التنافس لا على المستوى السياسي ولا الحربي ولا حتى المستوى العلمي، ولذا نلجأ للقذف والشتائم والاتهامات بالتكفير، ولو عرفوا أن لدينا أكثر منها لما تجرأوا علينا.

ورغم ذلك أقول إن المستشرقين في رأيي ليسوا كلهم سواء وليسوا كلهم أعداء لنا، ولو أخطأوا الفهم، فلا نصفهم أعداء ولا رُبعهم ولا ثمنهم حتى، بل عدد قليل جداً ومعروف للجميع، وهذا طبيعي بالمناسبة أيضاً. المشكلة أن تهويل البعض منا على المستشرقين بالشيطنة والتكفير قد تحوّل كثير منهم لأعداء، ونحن خير من يصطنع الأعداء!

ولذا فالنظرة الصحية والإنصاف وعدم المبالغة وعدم التهويل هي أمور ضرورية في مجال النقد الفكري والثقافي لحركة الاستشراق عموماً. والأفضل لنا ألا نعلن عداءنا لأحد، وأن نفرق بين من يخطئ نتيجة قصور ومن يخطئ لغرض في نفسه أو نفس من يعمل لهم!

على سبيل المثال كنت أراجع أمس آراء كل من بروكلمان وغولدتسيهر حول موضوع فرض الصلاة في الإسلام وكيف يفهمون صلاة النبي في مكة وتحويل القبلة.. إلخ.

ورغم أن هناك أخطاء واضحة ومضحكة أحياناً، فإنك لا يمكن أن تعتبرهما أعداء لنا رغم أن أحدهما مسيحي والآخر يهودي. وهما -في رأيي- من أفضل من فهم الإسلام من الكلاسيكيين، ولذا فأنا لا أعاديهما وأتعامل مع تراثهما باحترام ولديّ الأعمال الكاملة لكليهما بالألمانية، ولا أملّ من العودة لهما.

ورغم ذلك توجد قلة مغرضة من الكلاسيكيين والمحدثين تستحق الاتهام بالعداء، على سبيل المثال مستشرق كبير مثل ماسينيون، ليس لأنه مستشرق، ولكن لأنه رغم علمه كان استعمارياً حتى النخاع، وقد استخدم علمه في مساعدة فرنسا في إيذاء شعوب عدة وقهرها واستنزافها.

وهو في ذلك لا يختلف عن الاستشراق الإسرائيلي الاستعماري، هذا إذا صحّ أن نسميه استشراقاً. وأذكر عندما كنت في ألمانيا كان لي زميلة مستشرقة أتعاون معها بكل تقدير في كثير مما تعمل. وفي مرة قالت لي إنها ستذهب لبرلين لمدة أسبوع لتكون بجوار شموئيل موريه لتساعده إبان مرضه، فسألتها إن كانت تقصد المستعرب الإسرائيلي ورجل الموساد شموئيل موريه، فلما أجابت بالإيجاب انتهت علاقة التعاون بيننا!

وبالمناسبة شموئيل هذا له كتاب من أفضل الكتب عن الشعر العربي الحديث، ولكنه رجل استعماري مغتصب، وهو من أنشأ وحدة المستعربين الإجرامية ومسؤول عن كل جرائمها. وهذا لا يمكن أن تعتبره رجل علم مهما بلغت معرفته؛ لأنه ببساطة استعماري ومشارك في اغتصاب فلسطين وأعجب للجهلاء الذين يحتفلون به وبكتابه عن بغداد!

وقد رأيت مستشرقين كثراً ذوي نزعة نقدية إصلاحية يوجهون النقد اللاذع لهذه القلة المغرضة ذات النزعة الاستعمارية المعادية للعرب والمسلمين ويفندون أعمالهم وأغراضهم.

وقد رأيت مواقف مشرفة لهؤلاء المستشرقين النقاد وللعلم الذي يمثلونه.

على سبيل المثال في أحد مؤتمرات المستشرقين الألمان كان أحد المستشرقين، وهو متخصص في الشريعة الإسلامية ومقرب من بعض دوائر اتخاذ القرارات المتعلقة بالمسلمين وقضاياهم، قد جاء ليتكلم عن "تطور" ما يسمى بـ"الشريعة الأوروبية".

وقد بدأ محاضرته تلك بإشارة عدائية هي الأشد غرابة فيما أعلم، حيث عرض على شاشة العرض بالقاعة صورة كبيرة لمسجد قديم تمر أمامه عربة كارو مخلعة يجرها حمار قذر بلغ به الجرب مبلغاً جعل مفاصله تظهر بوضوح من خلال الجلد، ثم نظر لمن في القاعة وأشار للصورة خلفه وقال هو يضحك: "إذا استمر نمو الإسلام وتطور الشريعة في أوروبا على النحو الموجود الآن سيصبح هذا شكل مدننا قريباً جداً".

وهنا صمت كل من في القاعة تقريباً فتلفتُّ سريعاً فرأيت أنه لم يضحك في القاعة كلها إلا ثلاثة فقط معروفين بالاسم.أما البقية فكانت في حالة صدمة من وقع الجملة التي أفصحت بوضوح عن درجة غباء لا تليق بجمع يشمل عتاولة المستشرقين الألمان في الدراسات القرآنية، ولهم في العادة مكانة أعلى من غيرهم!

وهذا تحديداً سبب وصفي لما حدث بأنه جريمة علمية؛ لأنك في مؤتمر أكاديمي مشهود ولا يجرؤ على الظهور فيه والجلوس على منصاته إلا من لديه جديد في التخصص، فأنت في مقام مخاطبة أذكياء متخصصين وليس أعضاء جماعة فاشية متطرفة، وهم في الغالب أغبياء جهلاء.

وقد فهم الجميع هذه الإهانة المركبة في الحال، فكانت همهمة انقلبت ضجة، وقف بعدها عدد كبير من الحضور وخرجوا من القاعة حتى أصبحت شبه خاوية.

بالطبع بقيتُ حتى النهاية حتى أراقب ما يحدث، ولا أخفيكم سراً أنني أحب مثل هذه المواقف وأتفنن في وصفها.

أما الرجل نفسه فاضطرب وأطفأ جهاز العرض وأخرج منديلاً ومسح جبهته وخلف أذنيه ثم طوى أوراقه، فأشار له رئيس الجلسة المستشرق ش. فيلد ليتكلم، فحاول أن يتحكم في نغمة صوته لكنه لم يفلح؛ لأن الناس ما زالت تخرج من القاعة، وهناك ضجة خارجها.

فلم يلقِ محاضرته، ولكنه قضى الوقت المتبقي له في تعليل ما قاله والزعم بأنه لم يقصد ما فهمه الذين خرجوا من القاعة، ثم توقف عن الكلام ووقف وخرج من القاعة، وما إن خرج حتى دخل من كان قد خرج، حيث لا بد من إكمال العمل كما يقول الألمان!

طبعاً لو وقفت عند كلمته العنصرية وأخذت بقية المستشرقين بجريرته وأشبعتهم ذماً وكأنهم كل مصمت فأنت لا تقل عنه في شيء، ولكن الأفضل أن تلاحظ كيف عوقب في الحال بأناقة ولياقة ودون عنف.

وقد حاولت في اليوم التالي أن أعرف ما حدث لهذا المستشرق فعرفت أنه ترك المؤتمر كله واختفى!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

عبد السلام حيدر
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
أستاذ جامعي متخصص في التاريخ
تحميل المزيد