إلا ما سعى

طريق التجربة لا نعود منه خالي الوفاضِ وإن هُزمنا، فكل ما نَظنّه خيبات وهزائم إنما هي لَبِنات في صرح لن تبدو معالمه سوى بإصرارٍ منّا أن النهاية لم تأتِ بعد.

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/21 الساعة 02:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/21 الساعة 02:47 بتوقيت غرينتش

نُنصت إلى حكايات الماضي دائماً ممن سبقونا بعقودٍ إلى هذه الحياة، ربما هي محاولة منهم لترحيل جُلّ خبراتها وقناعاتهم إلى عقولِنا كما يفعل حكّائيو "السيرة الهلالية" عند نقل قصص الماضي ونسجها في سطور ذات قافيةٍ لا تُنسى، أتساءل دائماً: لماذا نتعثر كثيراً رُغم ما لدينا من كنوزِ قصصِ الأولين؟ لماذا لا تُجدي الحكايات أمام بَغتات الزمن لنا؟ الحكايات لا نُنضِج قلباً كما لا يُثقل الطرق الهيّن حديداً، كيف لي إذاً أن أمضي بذلك القلب الهش تحت مِطرقة الحياه!

أتخيل الأمر أحياناً كارتداء حذاءٍ لا يناسبنا قالِبُه على طريقٍ وعِر، فلا ندري، أنشكو تعثّر الحذاء أم قسوة الطريق!

أحذية حكائيي القصص سارت على طرُقٍ ربما كانت ممهدةً لهم في زمنٍ مضى، زمن نحلُم لو أدركْنا بعضاً من سلامِه وبساطةِ أخباره.

أحذيتهم ليست إرثاً كافياً لنا، حتى لا نكون كمن يمضي مُعبّأً بزادٍ لا يكفي الطريق الذي فرش تحت قدميه.

التكرار الأعمى إنما هو خراب نفسٍ لم تُخلق للمحاكاة أو التقليد، خرابُ الأنفس أعظمُ من ذلك الخراب الماديّ الذي يُصيب المدنَ والقرى إذا ما حلّت عليها الحرب أو أدركتها سنواتٌ عجاف، أن تعيش حياةً ليس لك كلمة فيها فذلك خراب لحريّتك، أن تُسلّم بكل ما قِيل فذلك خرابٌ لعقلك، أن تُولد وَسط وهْم مفاهيم وثقافة الأولين التي صارت منهاجاً وقالباً حُصرت فيه دون أن تدري، أن يُدرِك عقلك أنك لا تلائم قوقعة لا تستطيع مغادرتها، قوقعة ضاقت بصخب ساكنيها وعشوائية أحاديثهم، أن ترى سِعةَ الحياةِ أمامك مدّ بصرك ولا تستطيع قدمك أن تخطو في أي اتجاه سوى ذلك الطريق المزدحم برتابة خُطى قديمة، تنسحب حينها من المشهدِ فتصير مُشاهداً لا فاعلاً، وتصلي لكي لا يُمنّيك الأمل الذي خدع من سبقوك بنهايةٍ مُختلفة، تُصلّي لتستنبِط حقيقتك التي لم يَفرضْها عليك أحد، لعلّنا لا نسير خلفهم في طرقٍ تنتهي بفتحات قبورهم فندرك أننا لم نعشْ سوى حيواتهم.

أعلينا إذاً أن نبدأ في كل شيء من "صفر البداية"؟ أعليّ أن (أخترع الدرّاجة مجدداً) كما يقول البعض ساخرين؟

ليس حديثي هذا محاولةً لتجاهلِ الماضي أو لنسيان ما كان يوماً ما واقعاً خاضه من خاضه، فعقولنا ليست جدراناً يمكن طلاؤها لإخفاء ما كُتب عليه مسبقاً، ولكن ما كُتب ليس كافياً، لو أدركنا من البداية أن هناك شيئاً آخر علينا أن نَضعه نُصبَ أعيننا إلى جانب تلك الوصايا التي اعتدنا قراءتها على غلاف كتابنا المدرسي، وصايا استظهرناها مراراً حتى صارت كلاماً مجرداً فقد معناه الحقيقي في نفوسنا.

لو أدركنا وأدرك الموصون بأن عقولنا ساحات تجارب تتّسع كلما أتحنا لها المجال، فالنضج والثبات لا يولدان بالسنين ولكن بالتجارب، نفوسنا تتوق للتجربةِ ولخوض غمارِ الحياة لتسمو فوق ضيق الكرب واليأس وقلة الحيلةِ، تتوق إلى كنزَ ثُقل أرواحنا وتقويتها، عندها تَصير عقولُنا أكثر رحابةً وقدرةً على استيعاب الزمن بتقلباته، فيصير ما اعتدنا أن نقف عليه منتحبين سابقاً مجرّد موقفٍ عابرٍ لا يُهم، نرزق بصيرةً تساعدنا على إنزالِ الناسِ منازِلهم فنرى ما تُخفيه الادعاءات، ونُدرك أي الطرقِ نسلُك، تصير لدينا رؤية لما يستحق اهتمامنا حقاً وما يجب تجاهله والتغافل عنه.

طريق التجربة لا نعود منه خالي الوفاضِ وإن هُزمنا، فكل ما نَظنّه خيبات وهزائم إنما هي لَبِنات في صرح لن تبدو معالمه سوى بإصرارٍ منّا أن النهاية لم تأتِ بعد.

رُبما علينا أيضاً أن نُدرك أن العالم ليس بالمثالية التي نتوقعها، فعلينا السقوط مراراً قبل استعادة توازننا، علينا المُضي قُدماً متجاهلين تلك الأصوات التي تبكي بداخلنا بعد كل عَثره، عليّ أن أُخبر نفسي وإيّاكم بأن: "قدميك المهشمتين لسيتا مُبرراً للتوقف، قِف على خوفك كثيراً أو قليلاً، لن يأتي الغوث سوى من داخلك، بكاؤك ليلاً كنجم انفجر في أحد أركان الكون البعيد، لا أحد يأبه به وإن عَظُم مُصابه، يبدو للعيان صامتاً وهو غير ذلك، تحلَّ بالهدوء والصبر"، فليس للإنسانِ إلا ما سعى.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد