وكان يشير إلى حقيقة أن السلطة لا تلبث أن تسقط بيد مجموعات مهما تكن أحزاباً سياسية أو أسراًَ أو طوائف دينية أو عسكريين فإنها جميعاً من شمال السودان، في هذا السياق يمكن أن يقرأ حدثين شهدتهما الأيام القليلة الماضية، كان أولهما جنوح القائد عبد العزيز الحلو نحو المطالبة بحق تقرير المصير لجبال النوبة، وثانيهما هو الهجوم الأعنف الذي شنّه القائد مني آركو مناوي، رئيس حركة تحرير السودان، على النخب السياسية واتهمها بالتواطؤ مع المؤسسة العسكرية الأمنية في السودان.
ألقت أحوال الانتقال المستمر للدولة السودانية بظلال كثيفة على الأزمة الأعمق، التي واجهت كل الحكومات الوطنية، واتصلت بمعالجاتها كافة الأحزاب السياسية دون أن تصل إلى نهايات خاتمة بشأنها "مشكلة السودان"، التي برزت لأول مرة في جنوب السودان قبل أن تمتد لتصل مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور، بينما لا تزال الخرطوم تحصرها في أطر ضيقة لا تخرج بها إلى آفاق أوسع، ومهما حدد مؤتمر المائدة المستديرة (1965) مواضع وتعقيدات الأزمة لأسباب تتعلق بجغرافيا السودان وتكوينه البشري، فإن الأخطاء التي ظلت تواقعها الحكومات المركزية المتعاقبة منذ أول عهد الاستقلال عمّقت الأزمة، لا سيما الأنظمة العسكرية التي هيمنت على حكم البلاد لمدى أطول مما أتيح للأنظمة المدنية الديمقراطية، ذاك أن الأنظمة العسكرية جميعاً كانت تظن أن تلك المسألة السياسية القومية هي مشكلة أمن ونظام، وكما أضفت الصفة العرقية على الصراع الشمالي – الجنوبي فإنها عجزت عن إعادة تقسيم السلطة والثروة بالسويّة بما يعدل التفاوت في التنمية بين أقاليم السودان.
نقل بدر الدين حامد الهاشمي، في ترجمته لأجزاء من كتاب البروفيسور جبرائيل واربوج "النزاع التاريخي في وادي النيل"، طرفاً من آراء الصادق المهدي حول مسألة الجنوب يقول: "وكان الصادق، مثله مثل الكثيرين، يلقون باللوم على سياسة البريطانيين في كل الشرور التي حاقت بجنوب السودان، بسبب أن الدعوة للإسلام والتعريب فيه كانتا قد منعتا بطريقة استبدادية في غضون سنوات الحكم البريطاني الاستعماري.
وكان حزب الأمة قد وافق على إعطاء الجنوب (وبعض مناطق السودان الأخرى) وضعاً خاصاً، وعلى منحه قدراً محدوداً من الحكم الذاتي، وذلك لإيمانه بأن اللغة المشتركة والدين الواحد من أهم عناصر تكوين أي دولة قومية، ولكنهما كانتا غائبتين في الجنوب، كان ذلك هو رأي الصادق في عامَي 1966 – 1967م عندما ترأس الوزارة، وهو ذات الرأي الذي خرج به مؤتمر "المائدة المستديرة" عام 1965م.
غير أن أي من تلك المقترحات أو الآراء لم تنفذ قط بسبب قيام "ثورة" مايو/أيار عام 1969م..".
وفي قراءته لمواقف رئيس حزب الأمة يجد الدكتور منصور خالد "أن المهدي لم يكن صادقاً البتة في موقفه من تلك القضية التي أفضت إلى انفصال جنوب السودان، يقول: "عندما استقل السودان كان مطلب الجنوبيين "الفيدرالية" ولو تم التوافق عليه لما حدث الانفصال، أضاع الساسة الوقت والفرصة بـ(الغلاط) في الفيدرالية..".
ويستطرد: "عندما يجرؤ الصادق المهدي ويقول إن الفيدرالية تجربة لم تنجح في العالم، وإن البلاد الإفريقية تتأذى منها، هذا كلام غريب، الصادق المهدي رجل متعلم يعرف أن أميركا دولة فيدرالية والاتحاد السوفييتي -آنذاك- وسويسرا والبرازيل وكندا كلها دول فيدرالية، كيف يجرؤ على أن يقول مثل هذا الكلام وهو رجل متعلم، هو ليس جاهلاً لكنه يكذب على الناس..".
إذاً فقد نشأت فكرة تقرير المصير لدى القادة الجنوبيين عوضاً عن الفيدرالية، ويذكّر د. منصور خالد برسالة بعث بها "بنجامين لوكي" رئيس المؤتمر الجنوبي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 إلى الحاكم العام البريطاني ووزيري الخارجية المصري والبريطاني قال في تلك الرسالة: "إذ تعذرت الفيدرالية فلا مناص من أن ينفصل الجنوب عن الشمال بالطريقة التي انفصلت بها باكستان عن الهند".
وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها سياسي عن حق تقرير مصير جنوب السودان، لكن دون أن تأخذ النخب السياسية السودانية الأمر على محمل الجد حتى ساعة تمام انفصال جنوب السودان 9 يوليو/تموز 2011.
على مدى ربع قرن، منذ انخراطه في المقاومة المسلحة، طوّر الدكتور جون قرنق فكرة "السودان الجديد" الذي تتوحد أقاليمه على أسس جديدة، وفق العرض الذي بسطه د. الواثق كمير لتلك الرؤية، ذلك "أن الوحدة التي تأسس عليها السودان القديم ليست حيوية وغير قابلة للبقاء أو الاستدامة، فهذه الوحدة متجذرة في الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية لبعض النخب والمجموعات، بينما استبعدت مجموعات أخرى أساسية من عملية صياغة أسس المجتمع السوداني وتم عزلها عن المشاركة الفاعلة في السلطة السياسية وعن التعبير عن هويتها القومية والثقافية، وعن قسمة نصيبهم في الثروة القومية، وتم كل ذلك في إطار نموذج تنمية غير متكافئة..".
إذاً فقد خلقت اتفاقية السلام الشامل (2005) واقعاً جديداً أضحى من بعده التشبث بالسودان القديم يعني مزيداً من التشرذم والثورة على المركز، كما أخبرت بذلك القتالات التي استعرت من دارفور إلى جبال النوبة وحتى جنوب النيل الأزرق، وإذ انطلقت لأول مرة فور استقلال جنوب السودان الحرب في جبال النوبة والنيل الأزرق، فإن النظر الماسح لتلك الوقائع التي أعقبت الانفصال يكشف أن المركز القابض قد عمّيت عليه العظات كلها.
لقد كان الخطاب الذي ألقاه الرئيس عمر البشير بولاية القضارف مطلع يوليو/تموز 2011 وأعلن خلاله نتيجة الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان مستبقاً المؤسسة المنوط بها إشهار ذلك الإعلان، وأردف ذلك ببشرى خلوص السودان الشمالي من الثقافات والديانات والعنصر النشاز الذي ظلّ معوقاً للمشروع الإسلامي، ومن ثم استقامة الأوضاع الجديدة وتهيئها لاستقبال الشريعة الإسلامية نظاماً خالصاً للحكم، وتمام اكتمال تشكّل هويتها الجديدة عروبية كاملة لا تعرف غير اللغة العربية خطاباً رسمياً للدولة في نسخة جمهوريتها الثانية.
لم يكن ذلك الخطاب تشبثاً بالسودان القديم فحسب، لقد كان بمثابة "إعلان الحرب" التي انطلقت بالفعل متجددة فيما عرف بـ(الجنوب الجديد)، بل إن استمساك المفاوض الحكومي، من بعد، في كل جولات التفاوض مع الحركة الشعبية -قطاع الشمال بحصر التفاوض حول منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق أوسع الهوة بين الطرفين؛ إذ تعرّف الحركة الشعبية- شمال المشكلة على أنها (مشكلة السودان)، ولكن تجلت بوجه من الوجوه بجنوب السودان ثم بالمنطقتين ثم هي ذاتها في دارفور، بينما ظلت كامنة في بقية الأطراف، وإن تجاهل تلك الأطراف يُعد تهميشاً لها، هذا هو السياق الذي يجب أن تقرأ فيه مواقف قادة حركات المقاومة الأخيرة، لا سيما النزع إلى تقرير المصير مهما بدا أنه تجربة غير قابلة للتكرار اتعاظاً بانفصال جنوب السودان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.