سألت خاطباً ذات مرة: لماذا تتزوج؟ فغر فاه دهشة وارتفع حاجباه استغراباً، فالإجابة في نظره بديهية يعرفها كل أحد، قلت: أقصد ما هي أهدافك في هذا المشروع الكبير؟ وكيف ستخدم به وطنك وأمتك؟ وكيف ستقوم بوظائفه وتحقق مقاصده؟ وكيف ستحصن أسرتك ضد عوامل الهدم؟ وكيف…؟
قاطعني ضاحكاً: "هييييه يا صديقي العزيز، إنما أفسد عقلك قراءة الكتب، لست أنوي القيام بمشروع حضاري ضخم كتلك المشاريع التي صدعت رؤوسنا بحديثك عنها، ما أنا إلا رجل يتزوج! فتاة جميلة أعجبتني، أحببتها وأحبتني، وهي من عائلة كريمة ميسورة، وقد راقت لأمي، فخطبتها لي، الأمر بسيط!
المخطوبة تراه ذلك الفارس الرومانسي الوسيم الفريد القادم ليخطفها على حصانه إلى عالم آخر ليس فيه سواهما، ولا وجود له إلا في عقلها، رقيقاً حساساً في صحوه، بريئاً ملائكياً في نومه، وسيماً كليوناردو دي كابريو، شجاعاً كمحمد رمضان، مسلياً ككتاب الروايات، يساعدها في أعمال المنزل، ويحتضنها في حجرة المطبخ (لا أدري لمَ المطبخ بالذات؟!)، وستنجب نسخاً مكررة منه، وقد اختارت أسماءهم ووظائفهم و…..
يعاني معظم الشباب والشابات في عصرنا الحاضر من انعدام الرؤية وسطحية التصور لشكل حياة زوجية مستقرة هادفة مثمرة، يبذل الشباب في التخطيط لتكاليف الزواج وترتيبات العرس وقتاً وجهداً ومالاً يفوق أضعاف أضعاف ما يبذلونه في التخطيط لمشروع الزواج نفسه! قلّ مَن تجده يهتم بقراءة كتاب في أصول الحياة الزوجية، أو تربية الأبناء، أو معاملة الزوجة والالتزام بالوسطية في ذلك دون تحجّر أو تحلل ودون تجاوز في استخدام الحق أو إساءة استغلال لقضية القوامة بما يبتعد بها عن حقائق الشرع ومقاصد الشريعة، وندر مَن تجدها تهتم بحضور دورة تدريبية أو ندوة تثقيفية للمقبلات على الزواج أو معايير اختيار الزوج، عزّ مَن تجده قد تربّى على الموازنة بين احتياجات العقل والجسد والروح والنفس وعمارة الدنيا والآخرة، أو تنمية الوازع الأخلاقي ومجاهدة النفس.
والنتيجة: زيادة هائلة في نسب الطلاق، وبيوت أثقلتها الصراعات، ونفوس قتلتها الهموم، وأبناء ضائعون معذبون، ومجتمع محطم منهار، وأمة مهزومة تعيسة.
فيا كلَّ شاب وشابة، ويا كلّ خاطب ومخطوبة، ويا كلَّ زوج وزوجة: إن أردتما حياة هانئة سعيدة، وإن شئتما تجنّب هذا المصير البائس والتعاسة المقيمة، فإليكما رسالتي الموجزة غاية الإيجاز للأُسس التي لا يسعكما جهلها أو تجاهلها:
بزواجكما صرتما محصناً ومحصنة، أي دخلتما في حماية هذا الحصن المعد لحماية أخلاقكما وصون نفسيكما، والأصل أن يكون بينكما السكن والإلف النفسي، والحب والمودة، والرحمة الشفقة، فتصير علاقتكما الخاصة ذات سمو إنساني، ولا تنحدر لمستوى النزوات الحيوانية، أو تتحكم بها الأنانية، فتغدو استمتاعاً بلا إشباع، أو إشباعاً بلا استمتاع، وقد ألحّ الإسلام على إرواء هذه الغريزة ودعمها لإرساء الأخلاق والعفة في المجتمع، وقيام العلاقات الجنسية على أساس نظيف طاهر، وحمايته من الأمراض التي تنخر في كيان المجتمعات في جميع المجالات، وأمراض الزهري والسيلان ثم الإيدز، قال رسول الله: "لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا" (رواه ابن ماجه).
ومن بين نسائم الحب والود ومتعة الجسد تنشأ البذور الصالحة لتنبت ثماراً يانعة، أبناء صالحين قرة عين لكما، وهو المقصد الأسمى في الشرع وعند أهل الفكر والنظر من الزواج.
يقول الغزالي في الإحياء: "الولد هو الأصل، وله وضع النكاح، والمقصود إبقاء النسل، وألا يخلو العالم من جنس الإنسان، وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة وتلطفاً في السياق إلى الولد، وكانت القدرة الإلهية غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداء من غير حراثة ولا زواج، ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب مع الاستغناء عنها، إظهاراً للقدرة، وإتماماً لعجائب الصنعة".
وليس المقصود من الولد إشباع الفطرة وإكثار المجتمع فحسب، أو أن تنجبا الأولاد ثم تتركاهم للضياع، بل أن تزودا الحياة بعناصر الإعمار والبناء، أبناء أصحاء نفسياً وروحياً وجسدياً وعقلياً يسهمون في رقي المجتمع وتحضره.
تعاونا في بناء الحياة وتحمّل أعبائها، فالحياة تغدو مستحيلة بدون ذلك، ولتكن أسرتكما النواة السليمة والخلية النشطة في جسد المجتمع بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلى فعل الخير.
ليكن سعيكما إلى تحقيق هذه الأهداف والمقاصد بالتوازي لا التوالي، فغياب أي منها مثل نقص المياة من أحد أنابيب الأواني المستطرقة يؤدي قطعاً إلى نقصان في جميع الأنابيب الأخرى، فتحصنا بحصنكما، وليسكن كل منكما إلى رفيقه، وابذرا بذوراً صالحة، وتعهداها بالرعاية والحماية، وأقم الحياة… وأقيمي الحياة.
ــــــــــــــــــــــــ
* المراجع:
1- الحياة الزوجية في الواقع المعاصر، د/ صلاح الدين سلطان.
2- إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي.
3- قواعد تكوين البيت المسلم، د/ أكرم رضا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.