قد لا يكون الحديث عن "ذكورية" المجتمع آخذاً حيزاً واسعاً مثل ما كان في الماضي، إلا في بيئات محدودة في لبنان؛ إذ شكل المجتمع اللبناني الشرقي -لزمن بعيد- ثقافة بطريركية راسخة تحركها المؤسسات الروحية القائمة على دور الرجل في قيادة العلاقات الاجتماعية والأسرية، إذ تأخذ أبعاداً دينية – ثقافية في تركيبة البناء الاجتماعي لها.
أما اليوم، فيدور الحديث أكثر في فلك حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، حتى شكلت عوامل عديدة داخلية وخارجية، في تقويم شوكة هذه المرأة في المجتمع وتهميش دور الرجل التقليدية؛ إذ يبدو أن المرأة -وعلى غرار توقعات كثير من المنظرين- مقبلة على مكانة أكثر ريادية في مجتمعها الحديث.
يتحدث ألان تورين في كتابه المترجم بعنوان "براديغم جديد، فهم عالم اليوم" عن دور نساء هذا العصر في توجيه ثقافة المجتمعات الحديثة "المتعولمة"؛ إذ برأيه فقد فشل نموذج الرجل القائد، نتيجة "طِباعه الغازية وميوله الفطرية نحو السيطرة" في قرنِ اندلعت فيه الحُروب وسالت فيه كثير من الدماء، وقد بدا مشهد المرأة كذات فاعلة أكثر منها كجنس منمّط بدونية الرجل يأخذ طابعاً أكثر تفاعلاً في البلاد الغربية.
فقد خرج لبنان -عند انتهاء الحرب الباردة (1990)- بلداً مدمراً بفعل الحرب الأهلية الطائفية؛ إذ احتلت صورة الرجل -وهو يمسك البندقية ويقف على الراجمة- كل وسائل الإعلام المحلية والعالمية، لقد تحطمت صورة هذا الرجل بفعل القتل الدمار، ولا تزال صفات الطغيان والتعدي في تلك الأزمة تنسب إليه.
إن نموذج الرجل "بطل السلم والحرب" قد أزيل تماماً حينها؛ إذ خرج كل الأطراف مهزومين ومغلوبين.
لقد باتت صفات الإنسانية والرفق والشفقة من أبرز سمات المثالية، وهي طباع فطرية لدى المرأة استطاعت أن تجعلها قيمة حقيقية بعد تلك المحنة، ترجمتها الأفعال والسلوكيات في كل دور التنشئة الاجتماعية.
وكما في السياسة، ففي الاقتصاد انفردت الرأسمالية -بداية (1990)- في تجيير الأسواق العالمية ومنها لبنان؛ إذ "تحول المجتمع بالكلية إلى مجموعة أسواق وسلع متبادلة، يبحث فيه الفاعلون الاجتماعيون عن لذتهم ومنفعتهم المادية، فقد وجدت النساء وسط هذا العالم التجاري فرصة سانحة للتحرر من قيود نموذج قديم" (المصدر نفسه).
حيث اندفعت النساء بكثرة نحو المهن وسوق العمل تكاملاً مع تطور الأنظمة التعليمية والجامعية؛ حيث تصاعدت الاختصاصات واندمجت مع حاجات الأسواق، وقد شكل هذا السياق من المرأة فرداً فاعلاً في المجتمع الاقتصادي أكسبها هوية مستقلة عن الرجل؛ إذ أضافت هذه العوامل لدى المرأة منفذاً لتحقيق ذاتها في العمل ونيل استقلاليتها المادية والمعنوية؛ حيث كسرت حاجز التعلق التقليدي بالجنس الآخر، فإن مثل هذه العوامل -المدفوعة برياح العولمة- فتحت آفاقاً واسعة في بناء ثقافة غير موجهة ذكورياً، أعطت للجنسين المناخ والفرص سواسية.
إن العوامل "المعولَمة" المذكورة آنفاً، شيّدت ردة فعل على الواقع الثقافي الموجود في لبنان، مهّدت له التعددية الثقافية فيه حيث تلتقي الرياح الشرقية والرياح الغربية في بيئته؛ إذ أخذت منحى صراعياً بين الشرق والغرب.
وقد كان للإعلام -كأبرز المحركات الثقافية- دور محوري في ترقية موقع المرأة في الحياة الاجتماعية؛ إذ نرى اليوم أن هذه المرأة أكثر تكاملاً وأقل هشاشة من الأمس.
في النهاية، من المفيد أن نستعين بالظواهر الاجتماعية لتأكيد هذه السياقات؛ حيث تعد البطالة والعنوسة والمثلية أبرزها؛ إذ تؤكد المؤشرات أن النساء أكثر ثباتاً وإنتاجية في سوق العمل، مما يؤثر على الزواج وتأخره (70% نسبة العنوسة في لبنان، إحصاء 2016)؛ إذ ترجح مساحة أكبر للاستقلالية المادية عن الآخر (الرجل)، وتبقى المثلية الظاهرة الأكثر غموضاً لدى الاجتماعيين؛ إذ لم يعد الرجل مكملاً حيوياً كما نشطته الثقافة التقليدية، بل على العكس يجري تسليط الضوء على محاولة الكثيرين التقرب من النساء إلى درجة التأنث، وهي ظواهر ملموسة في الآونة الأخيرة؛ إذ كلها باتت تطرح الإشكالية الخطيرة: أي مصير للرجال في المجتمعات الحديثة؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.