في مستهل التسعينات اشتريت كتاب "تاريخ موجز للزمن" في نسخته الأولى المترجمة للعربية، لا أذكر على وجه الدقة متى كان ذلك.
لم أكن أعرف ستيفن هوكينغ مؤلف الكتاب، ولكن كانت عادتي زيارة بائع الصحف وشراء أي كتاب له صلة بالعلم (كانت الكتب والمجلات القليلة المتاحة هي مصدر المعرفة الوحيد في عصر ما قبل الإنترنت).
لم تكن لغة الكتاب صعبة وكانت المفاهيم مشروحة بتبسيط شديد، إلا أنها لا تزال صعبة التخيل أو الفهم، حتى إن نسختي من الكتاب لا تزال تحمل كثيراً من الأسئلة على الهامش كنت أكتبها كلما مررت بشيء لا أفهمه، لم أكن أقرأ في الحقيقة، وإنما أدرس هذا الكتاب الذي أوضح لى كثيراً من العبارات الفيزيائية التي كنت أسمعها ولا أفهمها.
ما لفت انتباهي في الكتاب هو روح التساؤل التي تتخلله من الغلاف للغلاف، لعلها من المرات الأولى التي أدركت فيها أن السؤال هو روح العلم، عرفت بعد ذلك أن ستيفن هوكينغ كرّس حياته للإجابة على سؤال وحيد كما يقول هو بنفسه: "هدفي بسيط: إنه الفهم الكامل للكون، لماذا هو كذلك؟ ولماذا هو موجود على أي حال؟".
"My goal is simple. It is complete understanding of the universe, why it is as it is and why it exists at all".
المرة الثانية التي تعرضت فيها لهوكينغ كانت في سنوات الجامعة الأولى في حوار قصير مع طالب دكتوراه مصري في الفيزياء النظرية، والتي دارت حول عمله في إطار "النظرية الموحدة" Unified Theory والتي تحاول وصف الكون بنظرية واحدة تصلح للتطبيق على النطاق الصغير والنطاق الكبير.
ساعدني هذا الحوار على ربط ما كنت أقرأه متفرقاً في الكتب والمجلات ولا أفهمه عن القوى الطبيعية.
فعلماء الفيزياء يعرفون أربع قوى أساسية ترجع حركة الكون الطبيعية لها: قوى الجاذبية بين الأجسام الكبيرة، القوى الكهرومغناطيسية بين الجسيمات المشحونة كهربياً أو مغناطيسياً، والقوى النووية القوية والضعيفة وهي قوى محدودة التأثير داخل نطاق الذرة، الضعيفة منها مسؤولة عن النشاط الإشعاعي والقوية منها هي ما يجمع البروتونات داخل نواة الذرة. فالقوى الثلاث الأخيرة تم تطوير نظرية تصفها جميعاً بشكل موحد (وتسمى النموذج القياسي Standard Model) وتعتمد بشكل أساسي على ميكانيكا الكم ومكتشفات علم فيزياء الجسيمات. وما زالت حتى الآن قوى الجاذبية تستعصي على الدمج مع القوى الأخرى ويعتمد وصفها الحديث على النظرية النسبية العامة، أي أن المعضلة تتلخص في دمج نظريتَي النسبية العامة ونظرية الكمّ.
فهمت عندها ما ذكره هوكينغ عن هذه النظرية وكونها ما يطمح في الوصول إليه من خلال عمله، والذي لم ينجح في الوصول إليه رغم محاولته لذلك في أكبر إسهاماته العلمية وهو تعميق الفهم لحالة الثقب الأسود Black Hole الكونية، كما يرى هو بنفسه:
"أظن أن أعظم إنجازاتي هو اكتشافي أن الثقوب السوداء ليست سوداء تماماً. فهم كيفية حل الإشكاليات بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة".
"I think my greatest achievement will be my discovery that black holes are not entirely black," "understanding how paradoxes between quantum mechanics and general relativity can be resolved".
مات هوكينغ عن 76 عاماً رغم أن الأطباء قد أخبروه أنه لن يعيش أكثر من عامين عندما كان عمره 21 عاماً، بعدما تم تشخيصه بمرض نادر يسبب ضمور العضلات وفقدان القدرة على الحركة والنطق.
لكن عقله الرياضي ظل يعمل بالرغم من ذلك وحقق أكبر إنجازاته العلمية تحت وطأة مرض عضال يأكل قدراته الجسدية واحدة وراء الأخرى.
ووصل إلى أعلى المقامات العلمية في مجاله رغم أنه كان طفلاً غير متميز أو استثنائي أثناء دراسته الابتدائية.
ولكنه -على الجانب الآخر- على المستوى الإنساني تخلّى عن زوجته التي دعمته وكانت سبباً رئيسياً في قدرته على تجاوز مرضه ليتركها من أجل ممرضته التي تزوجها ثم طلقها لاحقاً – في القصة التي سردتها زوجته في كتاب عن حياته وأقرها هوكينغ.
ساهمت كتابات هوكينغ العلمية المبسطة وخاصة كتابه A Brief History of Time بالإضافة لحالته الجسدية الخاصة في شهرته شهرة غير مسبوقة قلما يحصل عليها نظراؤه من علماء الفيزياء أو الرياضيات التي لا يسمع عنهم الناس في العادة.
وساهم الفيلم The theroy of everything الذي يقص حياة هوكينغ والذي ظهر قبل أربعة أعوام بشهرة أكثر اتساعاً جعلت من هوكينغ النظير المعاصر لأينشتاين.
رغم أن أعمال هوكينغ الأولى ساهمت في توطيد مكانة نظرية الانفجار الكبير Big Bang كنقطة بداية للكون، فإنه شكك فيها لاحقاً طارحاً نظرية بديلة هي No Boundary Proposal وهو مقترح يطرح فكرة عدم وجود بداية للكون. وكما كان أينشتاين معارضاً لنظرية الكمّ، كان هوكينغ مؤيداً لمعضلة هوكينغ (أحد نتائج أبحاثه التي تعارض قواعد الفيزياء المعروفة) حتى تنازل عنها لاحقاً، وراهن على عدم وجود جسيم هيجز Higgs Boson والذي تم إثبات وجوده حديثاً، وحصل مكتشفوه على جائزة نوبل وأعلن هوكينغ أنه خسر الرهان في ذلك. العقل الكبير قد يخطئ حتى في مجال تخصصه!
إلا أن هذه الأخطاء العلمية لم تمنعه من إسداء الحكمة البليغة لصغاره:
"واحد: انظر إلى النجوم ولا تنظر تحت قدميك. اثنان: لا تدع العمل، فالعمل يمنحك المعنى والغاية والحياة تصبح خاوية بدونه. ثلاثة: لو كنت محظوظاً بما يكفي لتجد الحب، تذكر أنه نادر، ولا ترم به بعيداً".
"One, remember to look up at the stars and not down at your feet. Two, never give up work. Work gives you meaning and purpose and life is empty without it. Three, if you are lucky enough to find love, remember it is rare and don't throw it away".
كأحد أكبر الفيزيائيين النظريين في العصر الحديث، يتخذ هوكينغ الرياضيات لغة لفهم الكون، والفيزياء وسيلة لإجابة أسئلة الفلسفة الكبرى. في كتابه الأول "تاريخ موجز للزمن" تسود روح (اللاأدرية) والتساؤلات التي تحتمل أكثر من معنى، بينما تحل محلها بعد عقدين من الزمن عبارات أكثر "عقائدية" كما في كتاب "التصميم العظيم" The Grand Design الذي يقول فيه:
"الخلق العفوي (الاعتباطي) هو السبب أن هناك شيئاً بدلاً من لا شيء، ولما يوجد الكون، ولما نوجد نحن. ليس من الضروري استدعاء رب لكي يبتدئ الكون".
"spontaneous creation is the reason there is something rather than nothing, why the universe exists, why we exist. It is not necessary to invoke God…to set the universe going".
ذلك قبل أن يصبح هوكينغ أكثر صراحة في حواره المنشور من سنوات قليلة:
"إنني أرى المخ كحاسوب سيتوقف عن العمل عندما تعطب مكوناته. لا توجد جنة أو نار لحاسوب متعطل، هذه أساطير للناس الذين يخافون من الظلام".
"I regard the brain as a computer which will stop working when its components fail. There is no heaven or afterlife for broken down computers; that is a fairy story for people afraid of the dark,".
رحل ستيفن هوكينغ صاحب العقل اللامع قبل أن يحقق حلمه بالوصول للنظرية الموحدة، وقبل أن يفهم الكون بشكل كامل، فهل يجد الآن أجوبة لأسئلته المؤرقة في الظلام؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.