في 12 مارس/آذار عام 1964م رحل عن عالمنا عملاق الأدب العربي، المفكر والعالم والأديب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد رحمة الله عليه، وفي ذكرى رحيله أحببت أن استعرض له كتاباً كان له أثر كبير في حياتى؛ إذ تفتحت لي بهذا الكتاب البديع آفاق كانت مغلقة، وتجلت لي به أفكار كانت مبهمة، وتصححت لي به مفاهيم كانت مغلوطة.. (التفكير فريضة إسلامية)، هذا هو عنوان الكتاب، وهو في ظني من أروع وأهم ما ألّفه الأستاذ العقاد.
في هذا الكتاب أراد العقاد أن يجيب على سؤال فرضته أسباب العصر الحديث وما وصلت إليه من تقديم في العلم والمعرفة العقلية والتقنية، هذا السؤال هو: هل يتفق الفكر مع الدين؟.. وهل يستطيع الإنسان العصري أن يقيم عقيدته الإسلامية على أساس من التفكير؟.. يجيب العقاد في هذا الكتاب على مثل هذه التساؤلات، ويرد بالحجة على الذين يتهمون الإسلام بأنه مجرد عقيدة دينية لا تصلح أن يكون له أثر خارج أبواب المساجد؛ لينتهي إلى أن الإسلام عقيدة دينية لا تعمل عملها ولا يظهر أثرها المراد منها إلا في خلال المجتمعات وبين جماهير الناس في حياتهم الدنيوية، كما في عباداتهم الدينية على السواء.
وقد طرح العقاد فكرته في اثنى عشر فصلاً، تناول في كل فصل منها قضية تحتك مع الإسلام؛ ليثبت أن الإسلام دعا إلى ما بها من خير، وأصلح ما بها من خلل، لتكون على وجهها الأكمل.. وبدأ أول ما بدأ بإثبات أن التفكير ليس أمراً مستحباً في الإسلام، وإنما هو فريضة واجبة على كل مستطيع.. وسوف أطّوف بالقارئ في فصول هذا الكتاب فصلاً فصلاً، مقتبساً مما سطره الأستاذ العقاد، بما يسمح به المقال.
* فريضة التفكير في كتاب الله
يقول العقاد: "من مزايا القرآن الكثيرة، مزية واضحة يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين.. وتلك المزية هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف.. فالقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة…"، وآيات الكتاب في هذا الشأن كثيرة، منها قوله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ وقوله تعالى في سورة الملك: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ وقوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، فهذه الآيات وغيرها كثيرة تدل دلالة واضحة على وجوب التفكير في كل شأن من شؤون الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
* الموانع والأعذار
في هذا الفصل يستجلي العقاد الموانع والأعذار التي حالت بين الإنسان وبين تحقيق فريضة التفكير.. ويبدأ قائلاً: "حين يكون العمل بالعقل أمراً من أوامر الخالق، يمتنع عن المخلوق أن يعطل عقله مرضاة لمخلوق مثله، أو خوفاً منه، ولو كان هذا المخلوق جمهرة من الخلق تحيط بالجماعات وتتعاقب مع الأجيال".
ويرد العقاد الموانع والأعذار التي تقطع على الإنسان سيبل الحق إلى ثلاثة موانع فيقول: "وأكبر الموانع في سبيل العقل، عبادة السلف التي تسمى بالعرف، والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية، والخوف المهين لأصحاب السلطة الدنيوية"، ثم بيّن من كتاب الله الآيات التي دعت، بل أوجبت على الإنسان تجاوز هذه الموانع والتبرؤ من هذه الأعذار.
* المنطق:
ما هو المنطق؟.. يجيب العقاد فيقول: "المنطق علم يجمع الأصول والقواعد التي يستعان بها على تصحيح النظر والتمييز".. إذن فما حكم الإسلام في المنطق؟.. وكان الجواب: "وحكم الإسلام فيه -بهذه المثابة- واضح لا يجوز فيه الخلاف؛ لأن القرآن الكريم صريح في مطالبة الإنسان بالنظر والتمييز، ومحاسبته على تعطيل عقله وضلال تفكيره".
ويفرق العقاد بين المنطق الرشيد والجدل العقيم، فيقول: "المنطق بحث عن الحقيقة من طريق النظر المستقيم والتمييز الصحيح، والجدل بحث عن الغلبة".
فإذا كان الأمر كذلك، فكيف لنا أن نتعرف على مجتمع يسلك سبيل المنطق في تصريف شؤونه، ومجتمع لا يعرف سوى الجدل واللجاج له سبيلاً؟.. يبيّن العقاد أن للجدل واللجاج أعراضاً اجتماعية واضحة، وهذه الأعراض "إغراء الناس بالمماحكة بالقشور دون الجوهر، واللباب من حقائق الأمور.. وإثارة البغضاء والشحناء على غير طائل ولعاً بالغلبة والاستعلاء بدعوى العلم والصواب.. وإشاعة الخلاف بين الآراء، جماعة بعد جماعة إلى غير نهاية يقف عندها ذلك الخلاف".
* الفلسفة:
الفلسفة التي يطرحها العقاد في هذا الكتاب، هي التي تبحث فيما وراء الحقائق المحسوسة، والتي ظهرت في حضارة اليونان.. فإذا كانت عقيدة الإسلام فرضت التفكير في كل شيء، فما هو موقفها من هذا النوع من التفكير؟.. وينتهي العقاد، بعض عرض موقف الفلاسفة من الإسلام وموقف الإسلام من الفلاسفة، إلى نتيجة مفادها "أن عقيدة الإسلام لم تنقبض عن لقاء الثقافات الأجنبية.. (فالإسلام) لا يضيق بالفلسفة؛ لأنها تفكير في حقائق الأشياء".
* العلم:
أيّ علم يجب على المسلم أن يتعلمه؟.. يجيب العقاد قائلاً: "العلم الذي أمر به القرآن الكريم، هو جملة المعارف التي يدركها الإنسان بالنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلقه الله من شيء.. ويشمل الخلق هنا كل موجود في هذا الكون ذي حياة أو غير ذي حياة"، مستدلاً بقوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾.
* الفن الجميل:
ما هي نظرة الإسلام إلى الفنون؟.. وهل بين الإسلام والفنون عداء؟.. يضع العقاد مقياساً لنعرف من خلاله موقف أيّ دين من الفنون، وهذا المقياس هو موقف الدين من الحياة وكيف ينظر إليها.. "فلا يقال عن دين إنه يحيي الفنون الجميلة.. إذا كانت نظرته زرية إلى الحياة.. ولا يقال عن دين إنه يزدري الفن الجميل إذا كان الجمال من مطالبه، وكانت نعمة الحياة مقبولة في شرعة المتدين به، بل واجبة عليه".. فإذا علمنا أن "الإسلام يحل الزينة ويزجر مَن يحرمها".. وإذا علمنا أن "الزينة والعبادة تتفقان في الإسلام ولا تفترقان" أمكننا أن نتعرف على موقف الإسلام من الفن الجميل.. قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وقال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾.
* المعجزة:
وماذا عن موقف العاقل في العصر الحديث -عصر المعجزات العلمية- نحو الإيمان بمعجزات الأنبياء؟
يقول العقاد: "إذا كان العقل الإنساني لا ينفي بالدليل المقنع وجود العقل الأبدي، فليس له أن يجزم باستحالة شيء مما يستطيعه ذلك العقل الأبدي.. والإسلام يضع المعجزة في موضعها من التفكير ومن الاعتقاد فهي ممكنة لا استحالة فيها على الخالق المبدع لكل شيء، ولكنها لا تهدي من لم تكن له هداية من بصيرته واستقامة تفكيره".
* أمام الأديان:
هل لمن يؤمن بدين الإسلام مزية يتفوق بها على غيره ممن يؤمنون بديانات أخرى غير دين الإسلام؟.. يرى العقاد أنه "من العسير على الكثيرين من المتدينين المؤمنين بالأنبياء أن يذكروا أسباباً عقلية لتفضيلهم الدين الذي يعتقدونه على سائر الأديان التي يعتقدونها".
ويرى أن الإسلام قد تجاوز بالمؤمنين به هذا العجز العقلي، وجعل لهم مزية يتفوقون بها على غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، فيقول: "والمسلم له عصمة من عقيدته تحميه من ذلك العجز الذي يعيب العقل ويعيب العقيدة معاً؛ لأن المسلم يؤمن بجميع الرسالات التي سلفت قبل محمد عليه السلام، ولا ينكر منها إلا ما نسخته الشرائع النبوية نفسها لاختلاف مقتضيات الزمن…".
* الاجتهاد في الدين:
يرى العقاد أن الفهم في الدين واجب على كل مسلم مستطيع، سواءً أخذ من الكتاب أو السّنّة أو الإجماع.. وسنده في ذلك أن التفكير والاجتهاد من الفرائض التي أمر بها الإسلام، وأن "الفرائض كلها في الإسلام تتساوى في شرط واحد، وهو الاستطاعة".. "وليس التفكير في الإسلام عوضاً من النص.. بل هو فريضة منصوص عليها، مطلوبة لذاتها".
ويرد على الذين يمنعون المستطيع من التفكير والاجتهاد في مسائل الدين وقضاياه قائلاً: "ومن أباح لنفسه أن يحرم على الناس نعمة العقل والعلم إلى آخر الزمان، فقد اجتهد برأيه اجتهاداً أبعد في الدعوى من كل ما يدعيه المجتهدون على حق أو على باطل".
* التصوف:
"إن المزية الصوفية الخاصة، هي مزية الإيمان بالله على الحب لا على الطمع في الثواب والخوف من الحساب والعقاب".. والصوفية في رأي العقاد أنواع "فالصوفية من حيث الموضوع نوعان: نوع العقل والمعرفة، ونوع القلب والرياضة. والصوفية من حيث موقعها من الدنيا نوعان: نوع يتخطاها وينبذها، ونوع يمشي فيها ويصل منها إلى الله".. والجميع سائرون إلى الله.
فإن كان التصوف بهذا المعنى فإن "المجتمع المسلم أحق المجتمعات بالتصوف وأولاه بحرية الضمير التي يسمو إليها الإنسان كلما آثر لنفسه الإيمان بالله على الحب والمعرفة، ولم يقنع بحظ الثواب والعقاب".
* المذاهب الاجتماعية والفكرية:
يلخّص العقاد موقف الإسلام من المذاهب الاجتماعية، كالديمقراطية والعالمية (العولمة) والاشتراكية، بأن الإسلام "يستوعب مذاهب الاجتماع ولا يستوعبه مذهب منها؛ لأن هذه المذاهب تأتي وتذهب ويعتريها التعديل والتبديل جيلاً بعد جيل".. ويلخص موقف الإسلام من المذاهب الفكرية، كمذهب التطور والوجودية، بأن الإسلام قد يقبل مبادئ هذه المذاهب الفكرية، ولكنه لا يتقيد بنتائجها.. فإن كان أصل مذهب التطور هو تنازع البقاء وبقاء الأصلح، فهذا من سُنن الكون، وليس فيه ما يصطدم بالإسلام في شيء.. وإن كان أصل الوجودية هو الاعتزاز بحق الفرد في الوجود، فهذا مما أصّله الإسلام، وبنى عليه مسؤولية الفرد عن تحمّل تبعات أعماله.
* العرف والعادات:
يقول العقاد: "دخلت في الإسلام عند ظهوره أمم شتى من أبناء الحضارة والبداوة تأصّلت لهم عادات عريقة وآداب موروثة، وتباعدت المسافة بين تلك الأمم في عاداتها وآدابها كما تباعدت في مواقعها وتخومها.. عالم شاسع تعددت فيه الأزياء والمراسم والمواسم والأطعمة والأشربة والآداب والمصطلحات.. فتعود المسلمون من اللحظة الأولى أن يوسعوا أكناف الإسلام لكل ما في هذا العالم الشاسع من عرف وعادة ومن شعائر ومراسم، وأصبح العالم الإسلامي مرادفاً عندهم للعالم الإنساني".
فإذا كان الأمر كذلك، وكان قبول الآخر أصلاً من أصول الإسلام، فلماذا نرى المسلمين اليوم يتحرجون من هذه العادات ويقابلونها بالرفض والمنع، حتى وإن ارتبطت بتقدم هذه الأمم ونهضتها؟.. وجواباً على هذا السؤال، يرى العقاد أن هذا الرفض في جانب منه ضروري للحفاظ على هوية الإسلام، ولكن التوسع فيه ينبئ بخطر على أمة الإسلام، ثم يقيم العقاد علاقة طردية بين نضج ووعي أمة الإسلام في مراحل تاريخها وبين تقبّلها عادات الأمم الأخرى التي تمثل عوامل قوتها ونهضتها، فكلما كانت أمة الإسلام أكثر وعياً ونضجاً وثقة بالنفس، كانت أكثر تقبلاً واستيعاباً لغيرها من الأمم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.