في رأيي الشّخصي، ينقسم الإنسان عقلياً إلى صِنفين؛ فأما الأول فهو الصنف الذي لا يتساءل، ولا ينتابه الفضول للبحث عن الحقائق ويمكن تسميته بـ"البدائي"، "قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ".
وأما الصنف الثاني فهو المتدبر والمتفكر والباحث عن الحقيقة، ومثال ذلك قصة إبراهيم عليه السلام: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" فقد انتبه إبراهيم -عليه السلام- إلى أنَّ الأصنام لا تنفع ولا تضرّ، فكيف تكون آلهة؟!
ثم تليها الآيات تصف طريقة تفكير إبراهيم "فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (سورة الأنعام).
وبذلك لزم الصنف الثاني كثرة التفكير والسعي لإيجاد أجوبة لأسئلتهم، وهذا ما يجعلهم يتذبذبون بين الشكّ والإيمان، وأمثلة ذلك ما حدث مع الدكتور مصطفى محمود، والشيخ عبد الله القصيمي، ولكنّ الله يثبِّت الذين آمنوا فثبَّت الأول بإيمانه وإقراره بوحدانيته "وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"، وألحد الثاني ومات على ذلك "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً" وهذا أمر مفزع.. نسأل الله الثبات وحسن الخاتمة.
ولا أخفي عليكم أنَّني ممّن ابتلاهم الله بكثرة التفكير والفضول والتَّساؤل، فأحياناً تتبادر إلى ذهني أسئلة نحو مَن خلق الله؟ ولماذا خلقنا وهو لا يحتاجنا؟ وماذا سيفعل أهل الجنة فيها حيث ستقتلهم الرتابة من الروتين اليومي رغم التنعُّم المتزايد؟ ولماذا يعذّبنا وهو يعلم في سابِق علمه ما سنفعل؟ وهل سيتأقلم أهل النار بالعذاب ولا يشتكون بعد طول زمن؟.. وغيرها الكثير من الأسئلة.
وسأتحدث بشكلٍ مباشر لإيماني بأنّنا نحن البشر نتشابه، وأنّه تنتابنا نفس الشُّكوك والتساؤُلات. وهذا أمر طبيعي، فهذا النبي إبراهيم سأل ربه (أرني كيف تحيي الموتى) وهذا النبي موسى سأل ربه (أرني أنظر إليك).. وإذا قلتم لي: (أوَلم تُومن) أقول: (بلى ولكن ليطمئنّ قلبي).
في الواقع، إنّ الإنسان مطالبٌ بالبحث والسَّعي لإيجاد الحقيقة أو أن يموت على ذلك، ففطرتُه السليمة تدفعه إلى ذلك، وبغضِّ النظر عن طبيعة المجتمع، سواءً كان أوروبياً، عربياً أو إفريقياً، مؤمناً أو كافراً، أو غير ذلك، فإنّ الإنسان يولدُ بعقيدته التي ورثَها عن آبائه أولاً، ثمَّ يبدأ بالتفكير فيها أخيراً، وتفكيره هذا يدور غالباً حول تأييد تلك العقيدة. ومن النّادر أن نجد شخصاً غيّر عقيدته من جرَّاء تفكيره، وذلك هو الصِّنف الثاني.
وهو ما وصفه القرآن بالعقول المغلقة والقلوب العمياء "إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ".
كما يقول الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري): "إن ما وصف القرآن به عقول الناس يشبه إلى حدٍّ بعيد ما اكتشفه العلم الحديث من طبيعة العقل البشري، فالعقل البشري مغلَّفٌ بغلاف سميك لا تنفُذُ إليه الأدلَّة والبراهين إلاّ من خلال نطاقٍ محدودٍ جداً وهذا النِّطاق الذي تنفذ من خلاله الأدلَّة العقلية مؤلفٌ من تقاليد البيئة التي ينشأ فيها الإنسان في الغالب".
إذاً، فالإنسان مُطالب بالانتقال من الصنف الأول إلى الصنف الثاني الآنف ذكره، وهو ما يظهر جلياً في القرآن (أفلا تتفكرون، أفلا يبصرون، أفلا يتدبرون، أفلا يعقلون..)، والسُّؤال الآن" هل الإنسان مُطالب بإيجاد الإجابة أو أن يعرف الحقيقة كاملةً؟
في الحقيقة، من الصَّعب جداً أن يجد الإنسان الإجابة كاملة، فعادةً لا يعرف الممتحِنُ الإجابة النّهائية إلا بعد التصحيح وعرضِ الإجابة النّموذجية، فيُمكن أن يتعرّف إلى بعض الإجابات بينما يغفُل عن أُخرى، وربّما يجيب عن إجاباتٍ بالخطأ وهو يظنُّ بها الصّواب!
وكذلك نحن البشر بما أنّنا في اختبار، يبدو أنّنا لن نعرف كلَّ الإجابات أو على الأقلّ الإجابات الكاملة إلا يوم العرض.
محدودية العقل
إنّ مدارك الإنسان وعقله محدودة ولن تحيط بكلّ شيء، فنحن نستطيع أن نجيب على أول سؤالٍ خاضع لحدود عقلنا وإدراكنا كأن نقول: مَن خلقنا؟ فنجيب بأنه الله.. ولكن ما أن نبدأ بطرحِ المزيد من التساؤُلات حتّى نصل لمن خلق الله؟ ولماذا خلقنا؟ فنجد أنّنا نغوص في المجهولِ ونقترب من الجنونِ ونبتعد عن حدودنا العقلية شيئاً فشيئاً حتّى نجهل الإجابة في كلِّ مرة.. ومن أجل ذلك سكت الأنبياء.
ويمثِّل ابن خلدون ذلك أروع تمثيل حين شبَّه قدرة العقل المحدودة بالرَّجل الذي رأى الميزان الذي يوزنُ به الذَّهب، فطمع أن يَزِنَ به الجبال! فهذا لا يدلُّ على أنّ الميزان في أحكامه غير صادقٍ، لكن للعقل حداً يقف عنده، ولا يتعدَّاه، فكيف له أن يحيط بالله وصفاته، وهو ذرة من ذراتِ خلقه.
ولا يَسَعُنا هنا إلا أن نقول كما أوصانا نبيُّنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في حديثه المروِي في صحيح مسلم: "لَا يَزَالُ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ، حَتَّى يُقَالَ: هَذَا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً، فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ".
فيكفي أن نعرف الله من خلال الكون، ونترك باقي الإجابات لوقتها، فمن علّم العنكبوت الهندسة، لا يمكن أن تكون المصادفة، ومن ضبط النظام الكوني بهذا الشكل الدَّقيق؟ لا يمكن أن تكون المصادفة (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون)َ يقول العُلماء بأنّ الأرض تميل بـ 23.455 درجة، ولو لم تكن بهذا الميلان لغمر الظَّلام القطبَين طوال السنة ولتحرَّك بخار الماء من البحار شمالاً وجنوباً ولما بقي على الأرضِ غير جبال الثلج وفيافي الصَّحراوات وستكون الحياة مستحيلة! كذلك لو كان الغلاف الجوي للأرض أقلّ كثافة ممَّا هو عليه لسقطت النيازك يومياً على الأرض فتدمِّرها تدميراً! ويقولون إنّه لو زاد قطر الأرض على قطرها الحالي لتضاعفت جاذبيتها وانكمش علافُها الجوي! هل حدث كلّ هذا مصادفة، قطعاً لا.
والنتيجة هي أنّه يستحيل على العقل أن يتصوّر وجود أيّ شيءٍ عاقل من مادّة غير عاقلة أو نظامٍ دقيق من عشوائية أو مصادفة، بل هو الحكيم العليم مطلق القُدرة وهو خارج الزَّمكان (الزمان والمكان) ولا ينطبق عليه ما ينطبق على مخلُوقاته، وكما قال عبد الحميد كشك -رحمه الله- عن الله: كان قبلَ خلقِ المكان لم يتغيَّر عمَّا كان.
عقلك يخدعك
"لو كان العقل كافياً وحده لما بعث الله الأنبياء"، هذه المقولة المنسُوبة إلى الإمام أحمد السرهندي فيها حِكمة عظيمة حول بعثِ الله للأنبياء؛ حيث إنَّ العقل بطبيعته يمكن أن يخدعنا، وهناك قصة طريفة لمناظرةٍ حصلت بين رجلين أحدهما يعارض نظرية التطور (الإلحادية)، والآخر مؤيِّد لها، وقد حاول الأخير إثبات نظرية داروين بقوله: يشترك القرد مع الإنسان في 99% من مورِّثاتهما الجينية، الأمر الذي يؤكِّد أنَّهما من أصلٍ واحد! فقاطعه الآخر بلا تردُّد: ويشترك السَّحاب مع البطيخ في احتوائِهما على 99% من الماء ممَّا يعني أنَّهما من أصلٍ واحدٍ أيضاً!
وإذا دقّقنا البحث في القرآن لا نجد ذكراً لكلمة (زمان) فقد أقسم الله بالعصر، الضحى، الفجر، وغيرهما من الأوقات ولكنّه لم يقسم بالزّمن! وهذا ما أثبتته نظرية النِّسبية لأينشتاين، والتي تقول بأنّ الزمان ليس كما نتصوره (ثوان، دقائق، ساعات..)، بل هو بعدٌ رابع في الفضاء إلى جانب الطول، العرض، والارتفاع، وهو متَّحدٌ مع المكان، وبذلك أطلق عليه أينشتاين اسم الزّمكان الذي ذكرناه سابقاً.
وكَوْنُ الله -عز وجل- خارج الزَّمكان، يعني أنّه لا يخضع لقوانيننا وأحاسيسنا وإدراكنا وفهمنا ومنطقنا، وهو بذلك يعلم الماضي وحاضره ومستقبله في وقتٍ واحد!
وكما أورد الدكتور عمرو شريف في كتابه (رحلة عقل): وجود الخالق خارج الزَّمكان يساعدنا على إدراك عظمةِ صفاته، فهذا يعني أنَّ الله لا ينسى بينما نحنُ ننسى ما حدث في الماضي، والإله لا ماضي عنده! وأيضاً يعني ذلك أنَّ الإله لا يتوقف عن الفعل، فالتوقف عن فعلٍ يعني انقضاء زمن هذا الفعل! وكذلك يعني أنَّ كل شيء يفعله هذا الخالق يفعله لحظياً، فهو لا يفعل شيئاً قبل شيء، ولكن قد تظهر لنا بعضُ أفعالهِ قبل البعض الآخر.
وبذلك فإن الله لا يجري عليه ما يجري علينا، فكلُّ ما سوف يحدث لنا قد حدثَ في علم الله.
وخلاصةُ القول: إنَّ السعي وراء فهم وإدراك الغيبيات التي لا تسعُها عقولنا، قد يؤدي إلى الجنُونِ أو الإلحاد، فالأجدَى من ذلك أن نبحث عن معرفة الله ممَّا هو متاحٌ لنا، ونترك اللَّهث وراء الحقائق الغيبية؛ لأنَّنا يمكن أن نصل إليها ويمكن أن لا نصِل، المهمّ أن نموت على الطَّريق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.