عند اهتمامي بتحليل مظاهر التبادل التجاري في العالم القديم، وجدت الكثير من الألغاز التي لم أجد لها تفسيرات منطقية في علم التاريخ المعروف. وكان أولى تلك السلع، تمثال من حجر اللازورد تم اكتشافه بمصر في فترة تتجاوز 5 آلاف عام، والغريب في الأمر أن مصدره كان شمال نهر السند وسط آسيا.
فدارت في ذهني الكثير والكثير من الأسئلة؛ كيف علمت مصر بوجود سلع في بلاد وادي السند؟ ولماذا كانت تلك السلع مطلوبة في مصر القديمة؟ وكيف استخدموها في بعض الأمور الدينية وفي صناعة التماثيل كحجر اللازورد؟ وكيف كانت تتم عملية التبادل التجاري هذه؟ وما هي محددات هذا التبادل السلعي؟ وهل كان تبادلاً سلعياً فقط أم كان هناك تبادل ثقافي وحضاري أيضاً؟ وما هي اللغة التي استخدمها التجار في هذه الحالة؟ وكيف كان يتم التواصل وإتمام تلك الصفقات التجارية بين الطرفين؟
كل تلك الأسئلة طرحتها مخيلتي ولم أجد لها إجابات في علم التاريخ. فإن التاريخ يذكر أن الكتابة بدأت بمصر القديمة في فترات تلت وجود حجر اللازورد المستورد من شمال نهر السند، حيث تم اكتشاف أحد التماثيل، وكان هذا التمثال مصنوعاً من حجر اللازورد وترجع فترة وجوده -كما هو معلن- إلى فترة حضارة نقادة، التي ترجع لعام 3500 تقريباً قبل الميلاد بينما بدأت الكتابة في عام 3200 قبل الميلاد!
وإن كانت العلاقات التجارية كانت تتم باستخدام لغة منطوقة قبل اكتشاف الكتابة التي تعتبر تصويراً للغة قائمة فعلياً، فما هي تلك اللغة العالمية التي كانت تُستخدم في تلك الفترات؟ فحاولت البحث عن أصل اللغات التي كانت تُنطق بمنطقتنا العربية في تلك العصور السحيقة.
ولفت نظري أن تلك المنطقة الممتدة من شمال إفريقيا وحتى العراق والخليج العربي هي منطقة متقاربة نسبياً، وفي وسط تلك المنطقة تقع دلتا نهر النيل، والتي كانت المركز الحضاري الأبرز في الحضارة المصرية القديمة بمدنها العظيمة، مثل مدينة أون أو هليوبوليس، التي كانت أهم منارة علمية وثقافية بمصر والعالم القديم في تلك العصور.
فكانت المسافة بين مدينة أون في مصر القديمة ومدن أور أو أوروك أو أريدو بجنوب العراق هي المسافة نفسها تقريباً بين مدينة أون ومدينة أسوان المصرية في جنوب مصر. وبديهياً، فإن العلاقة بين مدينتي أون وأسوان كانت قوية جداً، فلم لا تكون العلاقة بين منطقة جنوب العراق ومدينة أون في مصر قوية أيضاً؟
كل تلك الأمور دارت في مخيلتي، وحاولت أن أستنتج الروابط بين كل ما سبق من أحداث تاريخية. وكان الرابط الأهم والأقوى هو رابط اللغة، وكيف كان يحدث التواصل بين تلك المناطق والمدن العظيمة. فمن البديهي أن وحدة اللسان، مع اختلاف اللهجات، هو الرابط الأقوى بين تلك البلدان.
ولذلك، أخذت في البحث عن أصل اللغة في تلك المنطقة، ومررت بالكثير من الأبحاث والكتابات، ولكن توقفت عند كتاب وجدت فيه أمراً هاماً لتفسير تلك الأسئلة، وهو كتاب "ملامح في فقه اللهجات العربية" للدكتور محمد بهجت قبيصي، هذا الكتاب الذي اجتهد فيه الدكتور قبيصي سنواتٍ طويلةً حتى تمكن من إخراجه بهذه الصورة الرائعة، حيث قارن فيه بين لهجات تلك المنطقة جميعها في العصور القديمة.
وكانت النتيجة أن كل تلك اللهجات؛ مثل المصرية القديمة والسومرية والأكدية والسريانية والسبئية، ما هي إلا فروع لأصل واحد. أما اختلاف الكتابة، فكان بسبب أن الكتابة ما هي إلا تعبير تصويري عن اللغة، ولأن الطبيعة مختلفة بين تلك البلدان فترتب على ذلك اختلاف الأدوات التي تم التعبير بها في تصوير اللغة؛ ومن ثم اختلفت الكتابة، أما الأصل اللغوي فهو واحد.
فما هي تلك اللغة الأم التي تجمعنا منذ آلاف السنين في منطقة ممتدة من شمال إفريقيا غرباً وحتى بلاد الرافدين شرقاً، ومن الشام شمالاً وحتى الخليج العربي وعُمان واليمن والسودان والحبشة جنوباً؟
قد تكون تلك الرؤية مفسرة لما ذكره السومريون عند ذكر الحضارات العظيمة السابقة والتي ذكروها في ألواحهم، وتناولها المؤرخ صامويل كرومر في كتابه الرائع "من ألواح سومر" لنظرتهم للعصور الذهبية التي سبقتهم، حيث ذكر السومريون أن البشر في تلك العصور الذهبية كانوا يتحدثون بلسان واحد ويعبدون إلهاً واحداً!
في تصوري أن الإجابة عن تلك الأسئلة الكثيرة ممكنة، وقد نجد إجابات لبعضها لو أعدنا النظر في ميراث الأجداد الأوائل بمصر والعراق، وتتبعنا آثارهم في كل تلك المساحات التي احتوت علومهم وأسرارهم، التي يعجز علم التاريخ عن تفسيرها حتى الآن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.