عندما أتحدث عن ابنتي غالباً ما أُدرج دورها في النقاش بلغة عربية فصيحة، فيسألني عادة المتابعون: وهل تتحدث ابنتك؟
أولاً: لدينا كمجتمعات عربية اعتقاد خطأ سائد بأننا جميعاً نتحدث العربية كلغة أم. عملياً نحن نتعلم الفصيحة في المدرسة كلغة ثانية، بينما نكتسب العامية كلغة أم. يسألني البعض: أليست العامية الشامية والمصرية والليبية والخليجية.. إلخ لغة عربية أيضاً؟ تصنيفياً هذه التنوعات اللغوية تعتبر language varieties أي أنها متفرعات عن اللغة العربية الفصيحة نتيجة لاختلاطها بالموروث اللغوي المحلي لكل منطقة، وللتطور اللغوي الطبيعي.
لذلك يشار مثلاً للغة العربية في الجامعات العالمية إلى أنها من اللغات الحديثة Modern Languages وتسمى Modern Standard Arabic تمييزاً لها عن فصحى التراث Traditional Arabic والتي يعنى بها لغة القرآن الكريم والإنتاج العربي في عصور التدوين الأولى. لماذا من المهم أن ننتبه لهذا التفريق؟ لأننا بحاجة لان ندرك أن حديثنا بالعامية ليس بالضرورة يعني أننا متحدثون باللغة العربية الفصيحة (ولم أقل الفصحى)، وهذا ينعكس على اهتمامنا بإكسابها لأطفالنا واكتسابها نحن أيضاً.
ثانياً: هناك فرق كبير بين اكتساب اللغة وبين تعلم اللغة. الإنسان بطبيعته لديه القدرة على اكتساب اللغة دون تعليم ولا تلقين طالما أنه يتعرض للمدخل اللغوي، بمعنى أنه قادر على اكتساب اللغة بصورة تامة (للمحادثة) فقط بالتعرض للغة سماعاً واستخداماً. لهذا فإن الأطفال البشرية على مرّ العصور تعلموا الكلام دون مدارس ولا معلمين، وإنما من خلال وجودهم في الأسرة والمجتمع. وهذه هي ما تسمى بالملكة اللغوية، أي القدرة على اكتساب اللغة. وهذه الملكة ليست محصورة على لغة واحدة، فليس هناك أبحاث تضع حداً لعدد اللغات التي يمكن للأطفال تعلمها كلغة أم قبل الوصول للسن الحرج المقدر أحياناً بـ (9سنوات).
ولكن ما هو متوفر من دراسات يقول بأن الأطفال يمكنهم اكتساب 4 لغات قبل سن خمس سنوات دون تعرضهم لمشاكل في التفريق بين اللغات واستخدامها طالما أن هناك طرق سليمة للتعرض للغات. الطرق السليمة تعني أن يكون هناك غمر لغوي، وسياق لغوي يستخدم فيه الطفل اللغات بصورة منفصلة. مثال ذلك تعلم الأطفال في المجتمعات المهاجرة اللغة الأم للعائلة في البيت، بينما يتحدثون اللغة الأم للمجتمع في الحضانة والشارع.
ننتقل لتجربتنا الشخصية:
نظراً لاهتمامي الخاص باللغات وحبي لتعلمها فقط كان لدي تصور عن طبيعة النشأة اللغوية التي سأقدمها لأطفالي قبل الزواج، ثم عزّز ذلك دراستي لطرائق اكتساب اللغة عند الأطفال خلال سعيي للحصول على درجة الماجستير في تعليم العربية للناطقين بغيرها. انعكس ذلك على ابنتي الكبرى عندما ولدت وقبل الولادة على ما أذكر. كنت أشغل خلال حملي وخصوصاً في الشهور الخمسة الأخيرة القرآن والموسيقى والأغاني والأفلام بصوت عالٍ، أو أضع سماعات الحاسوب على بطني حتى يصلها الصوت. ومن جرّب هذا سيلحظ تفاعل الطفل منذ وقت مبكر مع هذه الأصوات. تقريباً استمعنا للعربية والإنجليزية والإسبانية والأوردو على ما أذكر.
ثم بعد أن ولدت ومنذ الأسابيع الأولى كنت أركز على القرآن والموسيقى، وأتبعتها شيئاً فشيئاً بالأغاني الإنجليزية المخصصة للأطفال وفيديوهات تعلم الحروف والمفردات البسيطة. ماذا يفيد كل هذا؟ ما يحدث هو أن هناك أجزاء من دماغ الطفل إن لم يتم تفعليها قبل سن معينة فهو لن يستطيع الاستفادة منها لاحقاً، غالباً ما تتعلق بالتركيبات اللغوية والقواعد أي النحو والصرف والتذوق الصوتي وليس المفردات. ويعتقد أن بعض هذه القدرات اللغوية تتوقف عند سن معينة ولا يمكن للإنسان استغلالها بعد ذلك. لذلك من المهم أن نقوم بمحاولة تفعيل أكبر قدر من هذه المستوعبات اللغوية بالتعرض لتراكيب ونظم لغوية مختلفة بما في ذلك اللغة العامية واللغة الفصيحة والإنجليزية وغيرها.
عندما بدأت ابنتي الكلام بدأت كأي طفل بدأت بالأصوات لتعبر عن حاجاتها، أوبا: أي احمليني، أَم: أريد طعاماً، هَو: في إشارة إلى الدُّب. ثم شيئاً فشيئاً بدأت تردد بعض المفردات، وقد لاحظت أنها التقطت المفردات بالنطق الإنجليزي بداية كما كانت تسمعه في المادة التي وفرتها لها، حتى وإن سمعت مني نطقاً مختلفاً. في حدود ستة أشهر كنت قد بدأت أقرأ أجلس معها ونشاهد "حكايات القمر" على قناة براعم للأطفال (الآن مشفرة)، وكنت ألاحظ أنها تحب كثيراً الموسيقى المصاحبة فأستغل ذلك لننتظرها بالاستماع للقصة وأتحدث إليها عنها.
ثم بدأت أشتري كتب المفردات المصورة للأطفال، مثل الألوان والأشكال والحيوانات، وقد كان نشاطها المفضل أن تقرأ كتاب الحيوانات مراراً وتكراراً، مع تقليد أصوات الحيوانات في كل مرة، وقد كان أول ما اكتسبته القدرة على تسمية الحيوان بالفصحى وأداء صوته. وفي الألوان كنا نكرر اسم اللون ثم نبحث عن الأشياء في البيت التي لها نفس اللون (استخدام مباشر للغة)، كل هذا بالفصحى.
شيئاً فشيئاً بدأت أحكي لها قصصاً عن الحيوانات أختلقها، ليست الفكرة في جودة القصة أو عدمها ولكن في استخدام المعلومات الجديدة التي اكتسبتا في سياق حتى لو لم تفهم كل الكلمات. يمكن استخدام قصص الأطفال القصيرة جداً المتوفرة في السوق أو على الإنترنت، وغالباً ما تكون مقسمة حسب العمر. عندما بدأت ألاحظ أنها اختارت العربية الفصيحة بدلاً من العامية كلغة أم (نعم هي التي اختارت ولست أنا من فرضت عليها الحديث بها) بدأت أبادلها الحديث بها ووالدها كذلك قدر المستطاع، وغالباً ما نخلطهما معاً.
ثم بدأت أزيد من المحتوى الذي تتعرض له يومياً، مع بداية العام ونصف كنا نشاهد مثلاً "فقرة فافا" على قناة براعم، وبرنامج مثل الكابتن كريم، وبرنامج حروف ورسوم. غالبيتها يتوفر منها حلقات قديمة على الإنترنت أو يمكن مشاهدة بعضها على موقع قناة براعم. الفكرة في مشاهدة البرامج هي في أن تكون مصحوبة بتفاعل معها من قبل الأهل، أي نتحدث عن المحتوى، نسأل الطفل ماذا يقصد فلان بهذا؟ ماذا حدث هنا؟ لماذا حدث هذا؟ بحيث لا يكون مجرد تلقي سلبي للمادة، وهو الأمر الذي ينفر من قضية التعرض للتلفاز.
كما أجد أنه لا يجب السماح ببرامج أطفال مثل الرسوم التي تنتشر هذه الأيام بالموسيقى الصاخبة والمحتوى الفارغ، للأسف هي المنتشرة. لا نشاهد ولا نستخدم أي محتوى من قنوات مثل نيكولوديون، ولا إم بي سي كيدز ولا سبيستون الجديدة. فقط البرامج والرسوم التي يكون المحتوى والعرض على قدر من الهدوء والتعمق، مثل برنامج المناهل الأردني، وافتح يا سمسم الجديد، وبعض الرسوم مثل "مغامرات نور" وبوكويو" و "ماشا والدبّ"، ومؤخراً بدأنا نتعرف على رسوم مثل: سالي، عهد الأصدقاء، وصديقي المحبب، وبانكي الصغيرة (وبطلتها فتاة مصابة بمتلازمة داون)، وفي مرحلة قادمة سنتعرف على مسلسلات مثل: بوليانا، ونوّار.. إلخ من المسلسلات التي تعقد النظرة العامة للحياة وتعرض لمفاهيم متعددة باستخدام لغة عربية سليمة.
الفكرة الأساسية هنا هي أنه على الأهل أن يكون لديهم روح مبادرة ومسؤولية فلا يتركون للتلفاز أن يختار ما يتلقاه أطفالهم، أغلب الأجهزة الآن يمكن إلحاقها "فلاش درايف"، وغالبية الفيديوهات على يوتيوب يمكن تحميلها ونقلها بسهولة وتشغيلها على الشاشة الكبيرة، وإن تعقد الأمر يمكن استخدام التابلت أو الحاسوب الشخصي لتحديد موعد المشاهدة اليومي. كما يجب أن يكون للأهل القدرة على مشاهدة المادة قبل عرضها إن ل يكونوا شاهدوها من قبل، وخلال مشاهدتها يتم مناقشة الطفل والتفاعل معه كما ذكرت من قبل.
والقرآن لا ينبغي أن ينحصر دوره في القراءة والحفظ فقط، بل نحكي لهم القصص القرآني ونتكلم معهم عن أسماء السور، ونفسر لهم المعاني ونشاركهم مشاعرنا تجاهه وننوع لهم في القراءات وطول السور. الأطفال يقدرون الجمال ولديهم ذائقة نقية راقية نحن من نحافظ عليها أو نفسدها.
بالنسبة للموارد الأخرى غير البرامج والرسوم المتحركة، فهناك عدة قنوات على يوتيوب توفر المادة التعليمية المناسبة مثل: تعلم مع زكريا، كرزة، أسرتنا، العربية للأطفال، سراج. هناك أيضاً تطبيقات على الهاتف أو التابلت مثل قصص عصافير (وقد أضافوا مؤخراً قناة على يوتيوب)، أتعلم القراءة والكتابة مع ماهر، لمسة، تطبيقات آبي كيدز، وتطبيقات أخرى كثيرة يمكن العثور عليها تحت باب: تعليم العربية للأطفال، تعليم الحيوانات للأطفال، تعليم الكلمات العربية للأطفال.. إلخ.
أخيراً، فيما يتعلق بالكتابة فلم أبدأ مع ابنتي ممارستها إلا من خلال الألعاب ثم أحضرت لها التدريبات المتوفرة على الإنترنت بسهولة ونقوم بحلها أيضاً في صورة لعبة، وأقدمها لها على أنها لعبة. فقط الآن عندما بلغت الخامسة بدأنا نشرح مفهوم القراءة والكتابة والأسواط والحروف التي تعرفها وكيف أنها مرتبطة وكيف أن الكتابة ستجعلها تتمكن من قراءة كل الكتب التي تحبها طوال اليوم، بحيث لا تشعر أن الكتابة والقراءة مسؤولية ثقيلة بل نشاط تكتسب من خلاله مهارة تستفيد منها.
آمل أن يكون هذا العرض المختصر جداً مفيداً للبعض. النقاط الأساسية في رأيي هي توفير اللغة للطفل، ثم متابعة استخدامه لها من خلال التفاعل معه بالقصص ولأغاني والرسوم والأنشطة اليومية والقراءة له، إن قضاء الوقت مع الطفل هو أهم عنصر من وجهة نظري. كما ينبغي الاستجابة له في حال بدأ يستخدم اللغة في الحديث اليومي بأن نرد عليه بها، حتى لو قسم الأهل المهمة بينهم كأن يكلمه الأب العامية والأم بالفصيحة والعكس. وإن تعسر توفر ذلك فليس بالضرورة التوقف عن ممارسة النشاطات الأخرى لتعزيز مكتسباته اللغوية بالفصيحة بينما يستمر هو في تعلم العامية واستخدامها في حياته العادية.
ولا ننسى أن تقدم الأطفال اللغوي مختلف، ابنتي الثانية لم تتكلم تقريباً حتى بلغت العامين، بينما نطقت أختها قبل أن تكمل العام، وهكذا.. فلا ينبغي المقارنة بين الأطفال وإرهابهم بسبب تأخر اللغة. جدير بالذكر أننا الآن في مرحلة التمكن من اللغة الإنجليزية لأننا في سياق إنجليزي حيث تذهب ابنتي إلى مدرسة حكومية أسترالية، بينما نستمر في البيت بالحديث معها باللغة العربية الفصيحة والعامية، ونتابع معها تعلم الحروف العربية ونتدرج في تعليم الكتابة والقراءة. تداخل اللغات طبيعي ومتوقع ولكنها مرحلة تنتهي بالاستمرار في الفصل بين الأنظمة اللغوية في الاستخدام قدر المستطاع وتوفير المدخلات اللغوية حسب المرحلة العمرية المناسبة للطفل. والله أعلم.
هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.