تتسارع أيام شهر مارس/آذار؛ ليكون الفلسطينيون في نهايته على موعد مُهمٍّ جداً مع يوم الأرض، حيث يتطلع الفلسطينيون في نهاية شهر مارس/آذار كل عام، نحو قضيّتهم التي أكل الدهر عليها وشرب، ثم يحذوهم الأمل على أن يكون يوم الأرض القادم يحمل لهم بشريات الحل والعودة واسترجاع الحقوق الفلسطينية المشروعة، وفي مقدّمتها حق العودة المقدّس، ولكنّ مارس/آذار يأبى في كل عام إلّا أن يضيف إلى الخارطة الفلسطينية شرخاً جديداً يُنسِي الفلسطينيين شروخ آذار الذي سلف.
واليوم يدنو يوم الأرض من الفلسطينيين حاملاً لهم صدىً مدوّياً ومشروعاً جديداً لم يألفوه من قبل، وهو ما يسمّى بصفعة القرن أو صفقة القرن أو سمّها ما شئت؛ لتصبح عاصمتهم الإسلامية في واجهة الخطر، وذلك بعد القرار الجائر التي عزمت على تنفيذه القيادة الأميركية الجديدة التي يتزعمها رئيس جديد كان قد وعد الإسرائيليين بإعادة الهيبة لدولتهم تارةً أخرى، إذ هَمّ دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى مدينة القدس، تنفيذاً لوعده المشؤوم المتمثل بالاعتراف بمدينة القدس عاصمة أبدية لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
ويزيد صفعةَ القرن سوداوية، تلك الموافقاتُ الخجولة التي لاقتها الصفقة من قبل بعد الحكومات العربية التي حاولت في بداية الأمر أن تخفي دورها الضالع في هذه الصفقة، ولكنها سرعان ما مارست شيئاً من الوضوح الذي كشف بعض الأسرار المتعلقة بها، فكيف يُحيي الفلسطينيون يوم أرضهم وها هو ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، يحث الخُطى في زيارته الخارجية الأولى صوب مصر، للوقوف على آخر مستجدات صفقة القرن، ولتحويل ما خُطّ في دهاليز الرياض إلى واقعٍ مرير مفروض على الفلسطينيين شاؤوا أم أبوا، وكأنّ تلك الهبّة الجماهيرية التي هزّت عواصم العالم أجمع لم تقنع رعاة صفقة القرن بأنّ القدس ستبقى عاصمة فلسطين وبأنّ تلك المساعي اللامشكورة التي تهدف إلى طمس معالم مدينة القدس هي مساعٍ غير مرحّب بها، ويلفظها أحرار العالم وجميع المتضامنين مع الحق الفلسطيني المسلوب، فمتى سيتوقّف هؤلاء عن تجاهل الصوت الفلسطيني، وتصويب جُل إدراكاتهم لما يتفوه به السياسيون الإسرائيليون ومن سار في ركبهم؟!
وليست صفقة القرن هي البُعبُع الوحيد الذي يعكّر أجواء يوم الأرض الفلسطيني، بل إنّ لها أخواتٍ في المهمّة، حالها هو حال الأحرف المشبهة بالفعل التي لا يجمعها شيء سوى أنها جميعاً تؤدّي مهمّة واحدة و هي تغيير معالم الجملة الاسمية ما بين نصبٍ ورفع، وكذلك هي حال صفقة القرن وأخواتها، فقد اتفقنَ كلّهن على عدم ترك المواطن الفلسطيني إلّا في حالة من اليأس يُرثى لها..
كيف لا، وها هي المصالحة الفلسطينية التي سُرّ بها الفلسطينيون نوعاً ما، تعود إلى مرحلة التراشق من جديد تمهيداً لذات المصير الذي لقيته المصالحات السابقة؟! لتدخل في أتّون صفقة القرن وأخواتها، فالانقسام الفلسطيني هو أخطر عدوّ يهدد مصير الفلسطينيين في الداخل والخارج، بل هو أشدّ بطشاً من العدو الإسرائيلي ذاته، فكيف لشعبٍ متناحرٍ ومتشرذم أن تقوم له قائمة وهو يعيش في كَنَف الانقسام والفُرقة؟!
هذا وإنّ الانقسام الفلسطيني لم يكن حِكراً على فلسطينيّي الداخل، بل كان له تَبِعات في الخارج، إذ انقسم أيضاً فلسطينيو الشتات بين مؤيّد للسلطة الفلسطينية وقيادتها وقراراتها، وبين مخوّنٍ لها.. وما بين زيدٍ وعمرو قدّم فلسطينيو الخارج نموذجاً سلبياً للقضية الفلسطينية أمام الوسط المدني الذي لم يعد يحترم الهموم الفلسطينية كما كان يحترمها قبل الانقسام المشؤوم.
أضف إلى ذلك أنّ الأزمات التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط قد أثّرت على القضية الفلسطينية التي غابت عن معظم وسائل الإعلام إثرَ انشغالها بالحروب الدامية والصراعات التي تخضّب البلدان العربية، فالقضية الفلسطينية وقبل قرار الرئيس الأميركي الأخير المتعلق بمدينة القدس، كانت غائبة كليّاً عن وسائل الإعلام العربية، وكيف لها الحضور وسط كل هذا الكَمّ الهائل من الأزمات، فالأشقاء الخليجيون يعيشون اليوم أسوأ نكبة في تاريخ الخليج العربي، إذ لم تُرسَم حتى اللحظة ملامح النهاية، وكذلك الأزمة السورية التي كان لها تأثير سلبي لا بأس به على القضية الفلسطينية، إذ انقسم فلسطينيو سوريا إلى ثلاث طوائف؛ طائفةٌ لم تتردد في حمل السلاح والتحاقها بالقتال لصالح طرف من أطراف الصراع هناك، فكانت المعضلة الكبرى في مخيم اليرموك، إذ وَجدَ مواطنان فلسطينيان شقيقان نفسيهما ودون سابق إنذار، على حلبة المواجهة كَعَدُوَّيْنِ يصوّبان البنادق على بعضهما البعض، وذلك دفاعاً عن الطرفين اللذين يحاربان من أجلهما.
وأما الطائفة الثانية فهم الفلسطينيون الذين التزموا الحياد ولا يزالون حتى اللحظة يعيشون في سوريا يقاسمون الشعب السوري العظيم معاناته ونكبته الجديدة، وأمّا الطائفة الثالثة فهم الذين زحفوا خارج الحدود ليعيدوا تجربة الآباء والأجداد في تكرارهم سيناريو اللجوء، فوجدوا أنفسهم في مخيمات جديدة في لبنان والأردن وتركيا، في حين وصل كثيرون منهم نحو القارة الأوروبية التي مهرت تذاكر إقاماتهم بشعار جديد يلغي وطنهم بالكامل من خارطة الوجود، فبين ليلةٍ وضحاها وجدوا اسماً جديداً لهم وهو (بلا وطن)، فكأنهم جلمودٌ غريب الشكل والأطوار هبط من السماء إلى الأرض، فليس له الحق في أيّ شبر من هذه الأرض.
تلك هي صفقة القرن وأخواتها، تخيّم على الفلسطينيين أينما وُجدوا ليعيشوا استمرارية النكبة التي تستمر وتستمر حتى تحقيق الوعد الإلهي الذي يغنيهم عن فضائل البشرية جمعاء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.