منذ بداية القرن العشرين نصبت الدول الكبرى نفسها راعيةً لنظام مالي عالمي صاغته بحيث تفرض هيمنتها على الاقتصادات العالمية عبر صندوق النقد الدولي التي أنشأتهُ الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية.
وقد اعتمدت اقتصاديات العالم على العملة الصعبة في التبادلات التجارية وهي عملات الدول الكبرى مثل الدولار الأميركي والجنيه الإسترليني، وتم ربط هذه العملات بأسعار الذهب والمعادن النفيسة في البداية وحين بدأ الدولار بالتضخم تمّ ربطهُ بالنفط.
العملات الرقمية
العملة الرقمية أو المشفرة، وعلى رأسها بيتكوين، وهي عملة وهمية أي ليست ملموسة باليد لا يشرف على طباعتها أو إصدارها أي بنك مركزي.
فقد أنشأها شخص أو مجموعة أشخاص مجهولة الهوية تدعى "ساتوشي ناكاموتو" وقد بدأ تداولها في العام 2009.
البيتكوين لا تعتمد على وسيط أو سجل مركزي، أي يتم تداول العملة بين البائع والمشتري بدون أي وساطة ويتم تسجيل ملكية العملة الرقمية في سجلات مشفرة منتشرة حول العالم، ولا يستطيع أحد اتباع العملة من خلال السجلات لمعرفة مالكها. أي أن أموالك لا يعرف كمّها أحد، لا موظف بنك ولا حكومة ولا غيرها.
على سبيل المثال إذا ذهبت لمحل تجاري واشتريت قطعة ملابس وقمت بالدفع بواسطة بطاقة الائتمان، فإن البنك هو الوسيط بينك وبين البائع. وحتى لو قمت بالدفع النقدي فالبنك المركزي هو الوسيط؛ حيث هو الذي أصدر العملة المتداولة.
أما إذا استخدمت العملة الرقمية على سبيل المثال البيتكوين وحين تشتري قطعة الملابس فأنت تدفع من خلال محفظة مخزنة على هاتفك المحمول والبائع لديه آلة تشبه آلة الدفع بالبطاقة الائتمانية، فتقوم بالدفع مباشرةً للبائع.
حين تتم العملية تتغير ملكية العملة الرقمية من محفظتك إلى محفظة البائع ويتم تعميم تغيير الملكية على شبكات الحاسوب حول العالم بوقتٍ قصير بطريقة لا مركزية تسمى سلسلة الكتل – بلوك تشين (Blockchain)، أي أنه لا يوجد حاسوب أو بنك مركزي يقوم بالعملية أو على علم بأطرافها، وأنّ الملكية تتغير بدون معرفة مَن البائع ومَن المشتري.
كيف تعمل سلسلة الكتل؟
سلسلة الكتل (بلوك تشين) هي عملية لا مركزية تُستخدم لتوثيق عمليات بيع وشراء إلكترونية عبر تغذية مجموعة كبيرة من الحواسيب بعملية التحويل وتغيير الملكية.
ويجب توثيق أي عملية على 51% من الشبكة قبل إتمامها، وبعد توثيق المالك الأساسي تتم عملية التحويل وتوثيق المالك الجديد بطريقة مشفرة دون معرفة أي معلومات عن المالك القديم أو الجديد، وبهذا فالعملية ليست بحاجة إلى حاسوب مركزي أو أي قطاع تنظيمي لتتم العملية.
بدأت البنوك والحكومات وأيضاً شركات الوساطة المالية باستخدام تقنية سلسلة الكتل التي تعتمد عليها البيتكوين.
من أوائل البادئين في تصميم نظام مقايضة باستخدام سلسلة الكتل كان بنك إتش إس بي سي HSBC ودائرة أراضي دبي؛ حيث ستستخدم دائرة أراضي دبي سلسلة الكتل من أجل مشاركة ملكية العقارات مع المواطنين والدوائر الأخرى في المدينة كمصلحة الكهرباء والماء.
الفرق بين البيتكوين والعملة الورقية
العملة الورقية قيمتها تحددها الحكومات والعرض والطلب واقتصاديات السوق والتضخم والديون الداخلية والخارجية. أما طباعة العملة الورقية فتتم بحسب الحاجة وهي عملية مضبوطة، خاصةً حين نتحدث عن العملات الصعبة.
أما البيتكوين فهي عملة محدودة الطباعة فعدد وحدات البيتكوين النقدية الممكن توافرها في المستقبل لن تتجاوز الـ21 مليون وحدة بيتكوين، وكل وحدة بيتكوين تتكون من 100 ساتوشي، حالياً تستخدم حواسيب متطورة للتنقيب عن البيتكوين (التَّعدين) وهذه الحواسيب تقوم بالعمليات الحسابية لعمليات البيع والشراء بالتوثيق والتسجيل، وفي المقابل تحصل على كسور من الساتوشي مقابل هذه الخدمات، أيضاً سعر البيتكوين يخضع للعرض والطلب، لكنه خارج إطار لعبة البنوك والحكومات التي ربما تستطيع المضاربة بالشراء والبيع فقط.
ما الذي سيحدث بعد انتهاء عمليات التعدين؟
حين تنتهي عمليات التنقيب أو التعدين التي ستستمر حتى العام 2140م، سيصبح عدد البيتكوين محصوراً وبهذا سيتحكم بالسعر العرض والطلب وثقة الجمهور بالعملة الرقمية.
ستقوم البيتكوين وحسب تصميمها بأخذ نسبة كالبنوك من المتعاملين مقابل عمليات توثيق البيع والشراء التي تقوم بها الشبكة حين انتهاء عمليات التعدين.
ما الذي يخيف النظام المالي العالمي؟
نظام المقايضة بدون وساطة الذي تتبعه العملات الرقمية يلغي فكرة المركزية ومراقبة حركة الأموال والأسهم والعقارات وغيرها، وأصبح من الصعب السيطرة على حركة الأموال ومعرفة وجهتها حتى.
نعم هذه اللامركزية والسرية في التعاملات استقطبت الكثيرين من الراغبين في الحصول على الخصوصية والتخلص من سطوة البنوك. لكنها أيضاً أصبحت ملاذاً آمناً للمتهربين ضريبياُ أو لغسل الأموال بعيداً عن أعين البنوك والحكومات.
أثبتت العملات الرقمية أنها تمتلك القوة الكافية لتقويض سلطة الدولة وتحكمها بالأسواق.
ففي تحقيق استقصائي أجراه مجلس الاحتياطي الاتحادي الأميركي حول البيتكوين في نهاية العام 2017، خلص رئيس المجلس جيروم باول إلى أن أحد أكبر مخاطر العملة الرقمية هو الخصوصية.
لكنّ هناك مستفيدين آخرين من العملات الرقمية، الدول التي تخضع لحصارات اقتصادية كفنزويلا مثلاً، أو دول تخضع لعقوبات دولية ككوريا الشمالية.
لقد أعلنت الحكومة الفنزويلية عن نيتها طرح عملة رقمية هذا العام للهروب من الضغوط الاقتصادية التي تلاحق عملتها المحلية التي تضخمت كثيراً.
كما أعلنت روسيا نيتها إصدار روبل رقمي لكن بسجل مركزي لإخضاع الروبل الرقمي لضريبة الدخل، لكن مع الاحتفاظ بالسرية التامة للتعاملات وعدم القدرة على معرفة أرصدة المستخدمين.
العملة الرقمية لا تخضع لحكومة ما أو نظام عالمي معيّن، فما يحركها هو عمليات البيع والشراء والمقايضات، فأنت لن تحتاج إلى تبديل العملة، ولن تخضع للبنوك ولن تدفع عمولات.
ولهذا نرى محاولات حثيثة من الكثير من الحكومات والأنظمة البنكية لمحاربة العملات الرقمية، ويبدو أنهم يميلون الآن لإصدار عملات مثل الريبل يستطيعون من خلالها تغيير بعض قواعدهم المالية، ولكن دون خسارة تحكمهم بالأسواق وانتقال الأموال.
الجمهور هو الحكم
العملات الورقية التي نتداولها يومياً لا نعرف كيف تصدر ولا كم النقد المتداول بالسوق.
المتحكم الحصري بها هو البنك المركزي، التابع للحكومة، وكل معاملاتنا تخضع للنظام البنكي، لا يوجد لنا خصوصية وندفع عمولات في كل حركة نجريها خاصةً الشركات، ناهيك عن فروق الأسعار حين نبدل العملات أو نشتري بضاعة أو خدمات من بلدان بعملة مختلفة عن العملة المحلية.
البيتكوين والإثيريوم ومثيلاتهما من العملات الرقمية تحافظ على خصوصيتنا وربما تشعرنا بأننا عدنا لاستخدام الذهب الأصفر في معاملاتنا بدلاً من الورق؛ لأننا نعرف أنه لن تتم طباعة أوراق نقدية جديدة بقرار من جهة سيادية تؤدي إلى التضخم. فما يحدد سعر العملة الرقمية هو المضاربات فقط، بالإضافة لهذا فإن البيع والشراء لا يخضع لوسيط يطالب بعمولة.
الحرب على العملات الرقمية حتماً ستفشل وحتى تلك الدول التي بدأت بمحاربتها ستبدو معزولة في المستقبل وستضطر للتسليم.
ربما لا نستطيع استخدام العملات الرقمية في معاملاتنا اليومية بمرونة مثل العملات الورقية أو بطاقات الائتمان، ولكن في القريب ستصبح خدمات الدفع موجودة في كل مكان حول العالم.
يبقى التحدي الأكبر هو الجمهور، فإذا زادت ثقتهم بالعملات الرقمية، فإنها ستنتشر بشكل أوسع، ولربما تصبح في يومٍ ما بديلاً عن العملات الورقية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.