انتظرتُ طويلاً، غفوتُ في غُرفة الأحلام (الانتظار) كَثيراً، لم يَعد عقرب الثواني يتحرك، توقّف الزَمن، اشتعلت نار الشّوق في كَبدي، تلعثمت، نبضٌ يتبعه نبض، بكيتُ شوقاً وحبّاً ورجاءً، ذاب قلبي من الدّعاء، خَشيتُ أن تنقطع بي السّبل، أأنا في حُلم؟!
لحظاتُ هي الأصعب في حياة الشّابة نجود أبو غنيم (30 عاماً) من مدينة نابلس، حينما استرقت بضع ثوانٍ كي تُلبس خطيبها الأسير رأفت البوريني خاتم الخطوبة، داخل سجنه، بعد أن فُتح جزء من الباب أمامها، فيما أبقى السجّان يده على المقبض، يشدّه بسرعة كلما حاولا مُلامسة بعضهما.
الشّابة "أبو غُنيم" تحقق حُلمها قبل عامين بعد أن أعلنت عن خطبتها على الأسير رأفت وليد البوريني (36 عاماً) من قرية بورين جنوب نابلس، وهو يقضي حكماً بالسّجن لمدة 20 عاماً، ويقبع في سجن النقب الصحراوي الإسرائيلي وأوجزت قائلة: "كان حُلمي أن أرتبط بشاب يعشق وطنه ويضحّي من أجله"، وبهذه الكلمات أخذتني نجود إلى عالمها الخاص وتفاصيل الحكاية.
تضبط "أبو غنيم" منبّه ساعتها يومياً على الثامنة صباحاً، وتفتح المذياع فور استيقاظها من النوم، على برنامج إذاعي منوع، تُراقب عقرب الثواني بشغف، تنسجُ بمخيلتها ما ستقوله، فهذه اللحظات تعني لها الكثير، كونها حلقة الوصل مع خطيبها القابع خلف القضبان، وتبعث لهُ ما يجول في خاطرها عبر الأثير، تأخُذها إلى فرحةٍ اغرورقت عيناها بالدمع لها، تُفسح المجال لشمسها بالشروق، تبعثُ نورها فيطرق نافذة رأفت وتدخل.
تعاود "أبو غنيم" الكرّة مرة أخرى في الثامنة مساءً، وتبعث برسائل أخرى، بعد أن أكد لها خطيبها البوريني أنه يتابع البرنامج يومياً "هذه الرسائل تُفرح قلب رأفت وتجعله دائماً يشعر أنني معه، في بعض الأحيان أبعث له بعضاً من كلماته، التي كان يرددها أمامي خلال الزيارة وأحفظها عن ظهر قلب، حتى أعثر على قلم وورقة وأدونها"، تقول "أبو غنيم".
أن تعقد فتاة قرانها على أسير داخل السُجون لربما هو أمر صعب، فالمسألة في الارتباط، ليس فقط أنه يجعل الإنسان سعيداً، هذا تبسيط مُضلل، الحقيقة أن الارتباط يُنهي كل أسئلة الإنسان تجاه نفسه، يردم كل حفر الروح المؤلمة، ويجعل أرضية القلب خضراء وجاهزة لاستقبال أي سعادة، ولكن سعادة هؤلاء ليست كأي سعادة، فهي اختزال للحياة، واستباق الأمل المنشود، الارتباط هُنا يعني أن تمنح ذاك الأسير حياة أخرى يعيش لأجلها، ويتناسى من خلالها سنين الأسر التي وإن طالت تبقى في تعداد الحُب قصيرة.
وتضيف "أبو غنيم": "نحو ثلاث سنوات مرت على ارتباطنا، ولم يتسنّ لي رؤيته وجهاً لوجه سوى خمس دقائق، كانت تعني الكثير لنا".
"دقائق معدودة اختزلت حياة كاملة"، تقول أبو غنيم، مشيرة إلى أن أول لقاء جمعها مع خطيبها البوريني كان خلال زيارتها لأخويها الأسرى، تعرفت خلالها على عائلة البوريني التي أعجبت بها، وطرحت فكرة الخطوبة في حينها.
وتضيف: "عقب ثلاث زيارات، تواصلنا معاً ووجدنا أن هناك التقاء بالأفكار وانسجاماً بيننا، وبعدها قررنا الارتباط لنرسم لبعضنا خارطة حياة من الصبر والثبات وتحمل الفراق لسنواتِِ عديدةِِ تنسجها خيوط الصبر على البُعد".
وتتابع: "نعم أحببت رأفت لدرجة كبيرة ولم أرَ فيه سوى الشخص المناسب، وهو من كُنت أحلم به منذ طُفولتي، ومستعدة لانتظاره لوقت أطول، والدليل على ذلك أنه عندما تقدم لخطبتي كان عمري 27 عاماً، وأنا اليوم في سن الثلاثين وأعلم أنني سأنتظره أربع سنوات أخرى حتى الإفراج عنه".
ولا تعتبر "أبو غنيم" أن ما حدث معها "مغامرة"، خاصة أنها سترتبط بشخص بقيت له أربع سنوات في الأسر، بعد قضاء أكثر من 16 عاماً من محكوميته، فهو من ضحى بعمره ويستحق منها التضحية لأجله.
"الاحتلال يريد كسر إرادة الأسرى وإنهاء أعمارهم في الأسر، والقضاء على حياتهم، ونحن بذلك نكون انتصرنا على قهرهم"، تقول أبو غنيم وتؤكد دعم وتقبل عائلتها لموضوع الارتباط من شخص أسير في سجون الاحتلال، ولا تعطي اهتماماً لآراء البعض، الذين يظنون أنها ستمضي عمرها في الانتظار. وتقول: إنها عايشت ظروف الاعتقال والصبر منذ الطفولة، فعندما كان عمرها خمس سنوات اعتقل خالها ووالدها وأشقاؤها وهدم منزلهم.
شئتَ أيها المُحتل أم أبيت سيخرج أسرانا من الأسر حتى لو خنقت أحلامهم وكسّرت إرادتهم، طالما بأجسادهم روحٌ؛ فأنت بهذا فتحت المجال لدخول النور إلى أحلامهم هذا النور الضئيل، بصيص الأمل الذي لم تكن ترغب بدخوله باتوا ينتظرونه كلَّ ليلةٍ بنفس المكان، يرمقون الأمل، يرقصَون على إيقاع ضحكةِ النصر، ليقولوا لك شكراً فلم يكن هذا النور إلا مُمَهِّداً للطريق، فارشاً لهم بالزهور.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.