فجأة وبدون مقدمات وبعد أن كان معروفاً باستقطابه للاعبين المنتهية صلاحيتهم في الدوريات الأوروبية، قفزت الأندية الصينية لمستوى آخر تماماً، وهو استقطاب لاعبين شباب ومن أندية مشهورة ومعروفة جماهيرياً، وبمبالغ فلكية وأجور شهرية، يسيل لها لُعاب كل شخص يمارس كرة القدم كوسيلة أساسية لكسب لقمة العيش.
قديماً كنا نظن أن استقطاب النجوم الذين صالوا وجالوا في الملاعب الأوروبية وصنعوا لهم أسماء ونجومية في الأندية الأوروبية هو نزوة ورغبة بتقليد واستنساخ تجربة الدوري الأميركي، الذي انتهج نفس المسار في السنوات السابقة، إلا أن تغيير بوصلة الاستقطاب نحو الشباب يُنبئ بأن التنين الأصفر لديه هدف آخر، خاصة أن المال لا يبدو أنه سيقف عائقاً أمام استقطاب النجوم.
فلم نفِق على أنباء رحيل نيكولاس جايتان ويانيك كاراسكو لاعبي أتلتيكو مدريد إلى الدوري الصيني، حتى تم إتباعه بصفقة أخرى، وهو لاعب فياريال الإسباني سيدريك باكامبو لفريق بكين جوان، في صفقة من العيار الثقيل بلغت 40 مليون يورو.
بقليل من التفكير، وبعيداً عن العاطفة التي يتحلى بها مشجعو كرة القدم، فإن الانتقال للدوري الصيني -في نظري- لا يبدو بتلك الخسارة للاعب، وعبارات مثل: إن اللاعب قد دفن موهبته، وسيدمر مستقبله الكروي، والكثير من العبارات العاطفية التي يتداولها المشجعون، قد تكون خاطئة.
فلاعب كرة القدم المحترف، سواء في الدوري الصيني أو الإنكليزي أو الإسباني، هو "موظف"، مستقبله تحت أرجله؛ لذلك فالهجوم عليه لا يبرره منطق ولا عقل، فإذا أخذنا مثلاً اللاعبين البرازيليين الذين غزوا الدوري الصيني، نجد أن خلفياتهم الاجتماعية فقيرة جداً، وكرة القدم أتاحت لهم الفرصة لانتشال أنفسهم وأسرهم من الفقر، وعروض مثل التي تقدمها الأندية الصينية لا تأتي إلا مرة واحدة في العمر.
أما عن الدوري الصيني، فيبدو أنه في الماضي كان شراء لاعبين -مثل دروغبا العاجي وأنيلكا الفرنسي- ربما يبدو مفهوماً لنا لأسمائهم الكبيرة في عالم كرة القدم، والخبرات التي يمكن أن يقدموها للاعبين الصغار، وجلب بعض الشهرة للأندية الصينية، ولكن التوجه الأخير يبدو أنه قد تم تجاوزه بعد الاتجاه للشباب من أميركا الجنوبية وإفريقيا، وفي هذا أيضاً فائدة كبيرة في رفع قيمة الدوري الصيني فنياً على الصعيد الآسيوي، ومنافسة أنديتها في بطولاتها.
وعلينا أن ننظر للدوري الأميركي كمثال على ما يمكن أن تفعله مثل هذه الصفقات، فالأميركيون كانت كرة القدم هي ثانوية عندهم، وحتى بقدوم لاعبين كبيليه وبينكباور لم يكن له أثر كبير كأثر قدوم بيكهام ولامبارد وغيرهما، فالجميع أصبح مفتوناً بهولاء النجوم بعد مشاهدتهم في وسائط التقنية الحديثة التي كانت في أوج مجدها وقوتها كعامل مؤثر في شهرة اللاعبين ومتابعة الجماهير لأخبارهم، فتحولت بوصلة المشاهدين الأميركيين بدرجة كبيرة لمتابعة الدوري الأميركي، وأصبح الاهتمام بها يوازي اهتمامهم بكرة السلة، والبيسبول، وكرة القدم الأميركية.
وبالرجوع للتجربة الصينية، أعتقد أنها تجربة ناجحة، خاصة أن الصين كدولة لم تكتفِ فقط باستقطاب اللاعبين من أوروبا وأميركا الجنوبية وإفريقيا، بل أصبحت لها أذرعها الاستثمارية في التغلغل والتمدد في القارة الأوروبية، من خلال امتلاك حصص في أندية كرة قدم في إنكلترا وإسبانيا وفرنسا وهولندا وجمهورية التشيك، ما يظهر أن هذا التحرك ليس حالة استثنائية، بل هي خطة ممنهجة للظهور في عالم كرة القدم كعامل مؤثر في خطتها الرامية للظهور في عالم كرة القدم.
فجارتها اليابانية لم تكن بذلك التأثير الكروي قبل العام 1993، ولكن منذ تأسيس الدوري المحلي الياباني استطاع اليابانيون أن يتأهلوا لكأس العالم خمس مرات متتالية، ربما ليس بنفس المنهجية في جلب النجوم، ولكن بتصدير النجوم، وهذا ما رأت فيه الحكومة الصينية أنه قد يواجه ببعض الصعوبة؛ لأن المجتمع الصيني متأثر بقوة بكرة السلة الأميركية والألعاب الأولمبية، وتركيز الأسر على تعليم أبنائهم لإكسابهم حرفة بدلاً من ممارسة كرة القدم.
فجلب نجوم لهم مكانتهم وفي ريعان شبابهم للعب في الدوري المحلي بالتوازي مع التمدد خارجياً للاستثمار في الأندية والمؤسسات الرياضية مع ارتباط بعض أبرز اللاعبين في أوروبا بالدوري الصيني على غرار "كريستيانو رونالدو"، وتوقيت بعض أشهر المباريات "الكلاسيكو" ليتلاءم مع التوقيت المحلي الصيني، كل هذه المؤثرات من شأنها أن يكون لها أثر بالغ على المواطن الصيني للالتفات لهذه اللعبة، والبدء في عشقها ومتابعتها، مما يختصر الكثير من الوقت للحكومة الصينية في تسريع مجهوداتها في جعل هذه اللعبة هي الأولى في الصين، وفي ذلك أبلغ الأثر في تربّع منتخبها وأنديتها للمشهد العالمي مستقبلاً بكل جدارة.
فكما يبدو فإن الموارد المالية والبشرية والدعم السياسي لا تشكل عقبة في هذا الطموح الكبير، فكما رأينا فإن التجربة اليابانية، ومن قبلها التجربة الكورية الجنوبية، تعتبر ملهمةً للصينيين في اللحاق بهم، مع رغبة وطنية في الظهور بمظهر جيد على الساحة الدولية، وتطوير كرة القدم في الأندية الصينية والمنتخب القومي، وتكوين قواعد جماهيرية للعبة، واستخدام المؤسسات التجارية الأندية لإيجاد حضور تجاري في أوروبا.
فقد نجحت الصين في استقطاب الأموال واستنساخ التكنولوجيا؛ لتقفز إلى العالم المتقدم، تاركةً خلفها دولاً صناعية كبيرة، ولم تترك الشركات الصينية شيئاً إلا واستنسخته وطوّرته إلى حد التفوق على النسخة الأصلية أحياناً، فهل ستنجح الأموال الصينية باستنساخ مواهب الكرة وعالمها؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.