"الحب" الكلمة الصغيرة المكونة من حرفين، قد خفيت معانيه ودقّت على أن توصف لعظمتها، فلا يدرك المرء حقيقته إلا بمعايشته والمعاناة فيه، وهو ليس عيباً أو إثماً أو حراماً أو بمنكر في الدين أو محظور في الشرع، فالقلوب بيد الله تعالى يقلبها كيفما شاء (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)، قد خلقه الله تعالى؛ ليكون بين الرجل والمرأة سبباً ليتصلا ويلحقا أجزاء نفسيهما ببعضهما، فالمثل إلى مثله ساكن، والله تعالى يقول: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، فكان سبب السكون إليه أنها منه ومثله، فقد خلق الله أمّنا حواء من ضلع آدم؛ لتكون أقرب إلى قلبه، وأحب إلى نفسه.
وللحب علامات كثيرة جمّة سأذكر بعضها، أولاها اعتصار القلب ذكراً والعقل تذكراً ليستحضر صورته أمام العين كل حين، ومنها كذلك النظر إلى السريرة أثناء المسير، فالمحب إذا نظر لا يغض بصره طرفة عين، فهو لا ينظر لغرض شهواني محسوس بل لغرض محب يتحرك مع تحرّك المحبوب، ومنها افتعال أي حركة أو طفرة للحديث والإنصات والتقاط الكلمات كشبكة لا تنسل منها الأسماك فتنشب فيها، واستغراب كل ما يصدر منه وإن كان عادياً، وتصديقه إن كذب، والإذعان له إن ظلم، وموافقته بشهادة زور مهما قال وأينما تناول قولاً.
ومنها اضطراب النفس، وخفقان القلب وخروجه ليرفرف بين السماء إذا هلّ المحب على المكان فجأة، وطلوعه إليه بغتةً ويا حبذا لو سأله سؤالاً عابراً، ويا له من يوم ضاحك لو سأله عن صحته، فهو سيسمعها "أنا أحبك فهل تحبني؟".
ومنها أن يصدر من المرء كل ما هو جميل منقلب عن طبيعته، فيصبح شجاعاً بعد أن كان متوارياً خائفاً، ويمسي كريماً بعد أن كان شحيحاً، ويرق طبعه بعد أن كان جامداً، ويتأدب ويتأنى بعد أن كان أحمق، ويتجمل بعد أن كان مهملاً لهيئته.
وهذه العلامات كلها في بداية الطريق، وللأسف يسير المحب بباقي الطريق وهو لا يمتلك خارطة الطريق، فهو لم يشتعل قلبه حباً بعد، ولم تتأجج روحه مستطيرة باللهب، وهنا يبدأ في محاولة الاقتراب من نطاق المحبوب، ويزداد جرأة على حسب معرفته بمدى تهاون الآخر، وأكثر المحبوبين تألقاً ولمعاناً هم أكثرهم امتناعاً وامتعاضاً، فلو كانت هينة سهلة الوصول لقلّت في نظره، بل وإنما قد يشك مثلاً أنها قد أحبت غيره وإن لم تكن، وتبدأ المتضادات تظهر جليةً واضحةً، فيصبح المحب من فرط الحب قاتلاً، كالسعادة إذا خرجت عن حدودها قتلت، والضحك إذا كثر سالت منه العين بالدموع، فيكثر به الشك، ويزداد الهمز واللمز، والمجاذبة والمشاحنة، وغضب أحدهما أو غضبهما معاً، ويتضادان في وجهات النظر والقول تعمداً من كل منهما، ومخالفتهما لبعضهما حتى في أتفه الأمور، وتشبث كل منهما بكلمة خرجت من الآخر وتأويلها على غير معناها، ولكن تكون هذه الأضداد والمشاحنات سبيلاً رائعاً لزيادة قوة الترابط، فما يلبث إلا أن يعتذر أحدهما، فيبكي له الآخر، ويسرعان في المصالحة، ولكن من يقدم الاعتذار أولاً هو الأكثر حباً وليس الأقل حجة.
والحب نادراً ما يأتي من نظرة، وإن أتى فلا بد من التمحيص والبحث جيداً فلعل الصورة الجميلة تخبئ قبحاً، وهناك مَن يحب من نظرة وهو يدرك مستقرها ومستودعها، وأغلب المحبين لا يحبون إلا بعد رؤية أكثر من مرة وحديث يتخطى المعتاد فيرنو إلى ركن لم يكن في الحسبان؛ لذلك حرم ديننا الالتقاء قبل الزواج، وهذا لعدة أسباب:
أولاً: أن كلا الطرفين يتجاذب شيئاً فشيئاً حتى تلتحم أواصرهما وتمتزج روحهما، ولو قدر الله ألا يتم مرادهما ولا توفق بينهما الأقدار، فهذا هتك لحرث ونسل حياتهما ويشعران بالظلم والاستياء من الحياة، ولكن كل منهما قد ظلم نفسه أولاً، وهذا غالباً ما يحدث، فلا أحد يختار نصيبه، وهذا هو إحدى آفات الحب العظيمة القاتلة.
ثانياً: الهجر.. وهو أقسى نهايات الحب، أن يبتعد طرف عن الآخر بعد التحام روحيهما فيشعر الآخر أن روحه مبتورة وحياته سعادتها منزوعة، فالمشاعر متقلبة إلى أبعد حد، وعندها يقول الرجل: "كل النساء خونة" وتقول المرأة: "كل الرجال خونة".. فعيب كبير أن يقتربا قبل أن يكون بينهما حلال أو شرع يربطهما.
ثالثاً: أنهما تزوجا، وهذا بالنسبة لكل منهما نهاية الحياة والجنة التي نزلت من السماء ليعيشا فيها، وهي من الحور العين والبيت بالنسبة لهما كقصر، لكن ما يلبثا بضعة أشهر حتى نسمع من المرأة: "لقد تغيرت كثيراً بعد الزواج"، وغالباً ما تصدر من المرأة لأنها وفيّة لحبها غالباً عن الرجل، ولكن الحقيقة أنه لم يتغير بعد الزواج بل هو كان متغيراً قبل الزواج.. كان بلا عيوب، أو نواقص، وبعد الزواج عاد لأصل عاداته وعيوبه وبُخله وحرصه وإهماله وهذا يساعده عليه شعوره بالفتور والملل؛ لأنه لم يُحكّم عقله منذ البداية فقد أحبّ صورة وتزوج لأجل الصورة وفقط، فتنتهي حياتهما بطلاق وإن لم يكن فستتكدر كثيراً.
أما عن الحب الذي ينشأ بين مخطوبين، أي يمشيان بمقولة أن الحب يأتي بعد الزواج، فغالباً ما يعشقان بعضهما فترة الخطوبة لسبب ربما هو السائد وهو خلوهما من مشاعر صادقة، وعندما يسمعانها يقنعان بعضهما أنهما يحبان بعضهما وبالفعل قد تنشأ بينهما محبة، لكنها حتى تكون صادقة مستمرة لا يتعكر صفوها.. أن يعملا عقلهما جيداً في أن كلاً منهما مناسب للآخر، فأنجح علاقات الحب وأدومها هي التي يرضى فيها العقل، ولذلك إذا عدنا بالذاكرة للوراء نجد أن أجدادنا عندما تزوجوا لم يكونوا يحبون بالأصل، فكدر الحياة ومشقة المعيشة كانت كافية لشغلهم عن ذلك، ومع ذلك كان بينهم نوع آخر من المحبة وهي العشرة والمودة الحسنة، وهذا من باب الرضا والقنوع بالعقل، وأقول: إن من لم يوفق لحبيبه أن يناله فوالله يستطيع أن ينساه في حالة إذا كان الهجر من الآخر فسيتبدل الحال كرهاً، أو كان بالأصل حباً من طرف واحد، وهو كذلك سيتأفف ويتملكه الكبرياء، ولكنه أحيانا يفضل الذل على ذلك.
إن أفضل أنواع الحب الحلال بين الرجل والمرأة.. أن يستقبل الطرفان بعضهما بالعقل قبل القلب، عندها قد يأتي الحب القلب بعد الزواج.. نعم يولد الحب بعد الزواج، وهذا متوقف على قناعتك العقلية والمنطقية، فأن يحب الرجل امرأة يدرك تماماً أنها محبوبته ليس لأن عينيها زرقاوان كزرقة السماء، أو لأن وجهها مستدير كالقمر، أو أن قامتها طويلة كالسيف، أو لأن صوتها كصوت عندليب يخفق بجناحيه فيخفق معه قلبه؛ بل لأنها هي فقط من استكانت إليها روحه، ورجحها له عقله، وأحبها قلبه لأن كل الأدلة تشير إليها، فلو أحب صورة ثم اكتشف أنها ضد الأصل فسوف يندم أو هي كذلك، لا بد من إعمال العقل في كل شيء حتى في العاطفة، فتربية الأب والأم لولدهما كلها عطف، لكنها لو تركت بدون إعمال المنطق والعقل فسوف يفسد الابن من الحب المطلق، فاستمرار الحب ينبع من اعتقاد الطرف أن الآخر يمتلك من الأخلاق والرقة والنبل والندرة والتيقن من أنها رفيق الدرب الصحيح، فهو قد أحبّ وهنيئاً له بحبه قبل أن يحب.
مثل هذا الحب يدوم مدى العمر، نعم هناك حب يدوم مدى العمر ومعظمه عندما يضحي أحدهما لأجل الآخر فيهبه الآخر روحه، وهو حب جمع العقل والعاطفة.
أختم مقالي بأن الحب فن راقٍ رفيع، يتطلب سعياً ودأباً وحرية وكمالاً في الإنسانية، والحب الحقيقي هو المشبع بالقيم والأخلاق المطمور في الدين، وهذا حب نادر كزهرة في طيات رمال الصحراء، ومثله يهابه المعظم ويخافه لأنه مبهم نهايته ولم يعلموا أن من أوله نور وسمو آخره خير وسعادة، فالحب والدين متلازمان وأسعد المحبين أكثرهم إيماناً، فلو تملك منهما الإيمان وبلغ مسعاه لرأيت نكران الذات واستعداداً للتضحية وإلحاحاً للفعل والاهتمام والقلق، الحب فطرة ناشبة بين روحنا قد خلقت معنا، ومن لم يحب فهو منزوع الفطرة، فالزوج حتى يكون زوجاً ناجحاً وأباً ناجحاً عليه أن يكون محباً لزوجته أولا.
الحب من أعظم معاني الوجود ولذلك يبقيه الله معنا في الجنة، لكن بلا شروط.
في وقتنا هذا أن تجد قلباً مليئاً بالحب، لا بد من التشبث به حتى ينبض في كل صدر، فالحب ليس لإنسان واحد بل هو بئر تسقي الظمآن، أصعب الحب هو الهجر الذي يشبه شمساً تشرق في قلوب معتمة فتضيء لها وتجعلها تعرف النور ثم تغرب بلا استئذان فتعود الظلمة للقلوب بعد أن رأت النور.. فيتمنى القلب لو لم يرَ النور حتى لا يبكي دماً أو ينضب عن النبض.
اجعل الحب لمن يستحق وهم كثر، لكن ليسوا بنفس الخانات، فحاول أن تحدد خانة البعض.
واعلم تمام العلم أنك بقدر منحك حبك للآخر بقدر سمو روحك ورقة مشاعرك وسعادتك.
لا يجتمع أبداً الحب مع البخل أو الجبن أو التمييز أو نكران الأهمية، فالمحب لا يحتاج أن يتخيل حتى حياته بدون حبيبه.
الحب عادة.. تحتاج لقلب متدرب على النبض.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.