نظر الطفل نحو الجانب الآخر من نهر ملوية.. مودعاً الجبال التي احتضنته، والأشجار التي ظللته، والسهول التي أقلته، مودعاً العائلة التي ربته ورمته! تنهد مستنشقاً هواء يحمل الأمل، واستدار وسار وسط شجيرات صغيرة مشى متسللاً، خوفاً من كلاب سمع نباحها على مقربة منه، حملته ذاكرته لكلمات والده، حين أخبره أن مدينة تسمى "بركان" تقع وراء نهر ملوية، كانت بمثابة هدف وضعه الطفل نصب عينيه يقصده في رحلته.
خيّم ظلام أولى لياليه في العراء، بحث "الرجل الصغير" عن مكان يوفر له حماية من كلاب مسعورة أو خنازير هائجة، ويساعده على إغماض عينيه.. صعد شجرة كبيرة وحاول النوم، لكن خوفه من السقوط جعله يبقى مستيقظاً.. حصل على حماية من الحيوانات ولم يحصل على راحة، بعد شروق الشمس بلحظات، نزل إلى الأرض ونام عساه يحصل على استراحة لبرهة.. بعد ساعة استيقظ المغامر على وقع زخات مطرية، نهض وخطا نحو دوحة وأكمل نومه تحتها.
توقف المطر، وقام محمد مواصلاً مسيره الذي وصل ليومه الثاني.. في طريقه سمع صوتاً يناديه باسمه! التفت خائفاً فلمح على بُعد حوالي مائتي متر قطيع غنم يسوقه رجل يلوح بيده، إنه المنادي! تردد الطفل في الذهاب إليه، خاف أن يعيده إلى دياره الأولى التي تلطم فيها ووالداه حيان.
يبدو أن الراعي ما زال يصرخ يا "محمد"! لم يجد غير الرد عليه، فقال له: أرجوك أحضر لي الحقيبة التي على يمينك فقد نسيتها! الآن تأكد الطفل أن الشخص لا يعرفه، فقط نادى محمد، وهو الاسم الذي يطلق على أي شخص مجهول.. سلم له الحقيبة وسأله أين تقع "بركان"، فأشار له بيده إلى اتجاهها.
صعد الطفل تلالاً عديدة وعبر سهولاً واسعة، قبل أن يلمح مع دخول ليلته الثانية، ضوءاً من بعيد، لا شك هو ضوء الإنارة التي توضع في المدن، فقد سبق وأخبرني والدي عنها، إني قريب إذاً من مدينة " بركان".
حوالي الساعة التاسعة ليلاً، من يوم السبت 7 أبريل/نيسان، سنة اثنتين وخمسين وتسعمائة وألف، وصل "محمد" إلى بغيته، ودخل المدينة.. بحث عن مكان يقضي فيه الليل، لم يجد غير مقبرة، أو بالأحرى لم يأمن سوى صحبة الأموات! دخلها واستلقى بين قبرين، وغفا!
عاش في تلك المقبرة لباقي أيام أبريل/نيسان، الفرق الوحيد بينه وبين سكانها، هو خروجه للبحث عما يسد رمقه ثم العودة! في أحد الأيام لم يستطِع الولد الصبر على الجوع، فبحث عن فتات الخبز في الأزبال، لم يجد شيئاً.. لمح كلباً يحمل رغيفاً في فمه، طارده إلى أن رمى قطعة الخبز وهرب.. فحملها الطفل وأكلها!
في ليلة الـ3 من مايو/أيار، استيقظ الطفل على وقع آلام شديدة جداً في الأذن، بدأ يصرخ من الألم ويبكي.. الوجع لم يكن يحتمل.. استمر إلى غاية بزوغ شمس الصباح، حين لفت صوت تألمه الشديد انتباه رجل من المارة، اقترب منه واستفسر عن السبب، فنطق الصغير، أذني أذني.. حمله الرجل إلى المستشفى، وتمت معاينة حالته، تبين أن حشرة دخلت لأذنه ولسعته، اشترى له الرجل الدواء.. لكن الطفل غادر المشفى بسرعة، وعاد نحو الشارع، كيف للمتشرد أن يشفى من مرض في الحياة والأخيرة كلها ضده، برد الليالي كان أقوى مما تتحمل قدرة الصغير، عاوده المرض في أذنه، وأفقده السمع منها.. استمر على حاله لباقي حياته.
فقد "محمد" السمع من الأذن اليسرى، ولكنه لم يفقد الأمل في العيش، بحث عن عمل بين أبناء المدينة الصغيرة، فتأتّى له ذلك بعد موافقة صاحب مقهى شعبي على العمل عنده.. باشر أعماله في غسل الفناجين والكؤوس، وتقديم الطلبات للزبناء، كان الوضع في البداية أفضل من العيش متشرداً.
بعد شهر من العمل.. تغير تعامل صاحب المقهى، صار صعب المراس، سريع الغضب، وبدأ يصرخ في وجه "محمد" ويسبه بأبخس الألفاظ، يسب والديه، كان ذلك يدمي قلبه الصغير، بل وصل به الحد أن ضربه بكأس فأصابه في يده بعد أن حاول حماية وجهه.. خرج الطفل ذو الأربعة عشر ربيعاً من المقهى جارياً.. هارباً.. باكياً.. فاقداً للأمل! لم يكن يدري ماذا يفعل.. لكنه فضَّل مغادرة المدينة.
توجه "محمد" نحو البادية، يمشي دون هدف، ضائعاً وسط حقول البرتقال، لا يعلم أين يتجه، قلبه محطم، فقد الإحساس بسبب بؤس الحياة، مشى ومشى.. يبحث عن المجهول.. حاول الهرب من عذاب زوجة العم، فخرج لما هو أسوأ! نظر إلى السماء كأنه يدعو الله أن ينقذه من مصابه! فجأة سمع صوتاً يناديه، استدار ورأى رجلاً في الستينيات من العمر، ذا لحية بيضاء، كان يعرفه.. سبق وقابله في لقاء عائلي قبل ثلاث سنوات، استقبله ورحّب به، حكى له ما جرى معه، أشفق عليه وعرض عليه العمل عنده.. يرعى الغنم مقابل الأكل والشرب والنوم، كان هذا بمثابة فرصة جديدة للهرب العراء.. (يُتبَع).
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.