قد لا يغيب مصطلح "الوجود" عن الهويات الجماعية في المنطقة، فلبنان بلد الكيانات المتعددة الذي أطلق عليه فيما مضى، المستشرق البلجيكي هنري لامنس مصطلح "موطن اللجوء": يشرح مستفيضاً في كتاب من جزأين بعنوان "تاريخ سوريا الوجيز" عن الأبعاد الجغرافية والسياسية للبنان، واصفاً اياه بـ"البقعة التي لجأ إليها واستقر فيها كيانات دينية فريدة" في محيطها الشامي كالموارنة والشيعة والدروز، هاربة من الاضطهاد الإسلامي في بلاد الشام.
إذ تناسى (لامنس) المجتمع السني الوازن المتواجد على أطرافه الساحلية؛ حيث كان يدرّس في الجامعة اليسوعية في بيروت.
وقد ارتبط سنّة المنطقة فيما مضى، بكل الحضارات والإمبراطوريات السنيّة، وتأسست عبرها روابط وجدانية دينية حكمتها وحدة المذهب والدين -دون القومية والعرقية- وترجمها الانتماء الجغرافي والولاء المباشر؛ إذ لا نستطيع أن نستثني الأمويين أو العباسيين أو المماليك وآخرهم العثمانيين من تاريخ السنّة القديم والوسيط في المنطقة، عكس "الأقليات" والتي مستعدة أن تصنف كل هذه الإمبراطوريات على أنها ظالمة ومحتلة.
لذلك فمن المعلوم أن يتأثر "الرؤية الوطنية" الحديث المنشأ بالسياق التاريخي للمجتمع السني المتأصل في جغرافيته.
فبدايةً، شعر المجتمع السني اللبناني سنة 1920، بالانشطار المفاجئ عن محيطه التاريخي؛ إذ عبّر المؤرخ كمال الصليبي في كتابه "بيوت بمنازل كثيرة" عن أن سنّة بيروت استقبلوا "بتحفظ شديد" نظرية "وطن اللجوء" التي شرحها لامنس حينها، في كتابه الذي صدر قبل سنة من دخول الانتداب الفرنسي إلى بلاد الشام، والذي زعم الصليبي أنه دُفع من قبل الفرنسيين لشرعنة انتدابهم.
ورغم دخول السنّة -اللبنانيين الجدد- في الاستحقاقات السياسية للبنان الكبير حينها، إلا أن الحقائق أوحت بـ"التعلق غير الآمن" بالمحيط العربي لها، وهو مصطلح يدرج في علم نفس نمو الإنسان، يشرح فيها المشاكل العلائقية بين الطفل وأمه والنماذج التي تنتج عنها.
فقد اشترك المجتمع السني بالثورة السورية الكبرى سنة 1925 والتي قادها يوسف العظم؛ إذ اشتعلت حينها كل المدن السورية رفضاً للانتداب، وظل هذا المجتمع على مدى 20 سنة يطالب بالارتباط مع الداخل السوري.
وجاء عبد الناصر بعد 10 سنوات من الاستقلال اللبناني، وطرح فكرة القومية العربية، إذ سارع السنّة إلى أول المنادين بالقومية، فقاموا سنة 1958 بثورة شعبية عارمة في لبنان، مطالبين الاتحاد مع الدولة العربية التي أسسها عبد الناصر مع سوريا في ذاك الوقت (دامت سنتين)، إذ فشلت الثورة وفشل معها حلم الأمة العربية الواحدة.
أما سنة 1975 فشارك المجتمع السني في الحرب الأهلية اللبنانية تحت شعارات أممية كالناصرية والشيوعية والاشتراكية، وكانت تُعلق صور الراحل عبد الناصر على دبابات التنظيم الناصري في بيروت، وهو تنظيم من الغالبية السنية من أهل بيروت وطرابلس وصيدا.
حتى وبعد دخولنا القرن الواحد والعشرين، ومع مجيء الاستحقاقات الثورية التي عُرفت بالربيع العربي، وجدنا سنّة لبنان آخذين بالتأثر بكل الموجات الثقافية التي نشأت عنها.
فأثبتت الثورات الإقليمية، وخصوصاً السورية منها، أن المجتمع السني متفاعل بشكل غريزي بمحيطه القريب والبعيد، إذ كثرت الأبحاث عن الحركات الدينية الحديثة في لبنان، وخصوصاً في طرابلس وصيدا، وعبرت الموجات الثقافية الحدود الجغرافية للمدن السنية واندمجت بها، حتى باتت الدينامية الشعبية تأخذ أبعاداً وتوجهات أكثر دينية -مذهبية- التي كانت بالسابق قومية – عروبية، متأثرة بالحالة الإخوانية في مصر وتركيا، وبالحالة السلفية الفقهية السائدة في الدول الخليجية، ترجمتها مظاهر دينية-ثقافية في طرابلس وصيدا.
لا بد بعد هذا السرد السياسي لعلاقة المجتمع السني بمحيطه العربي، بالسؤال عن مصير سنّة لبنان بعد الحروب الإقليمية المتعاقبة في المنطقة؛ إذ أضحى الداخل السوري معزولاً عن الخريطة السياسية العربية، والسعودية المتخبطة سحبت كل رصيدها السياسي عن الداخل اللبناني بعد حادثة 4 نوفمبر/تشرين الثاني (استقالة رئيس الوزراء اللبناني من الرياض)، فبات من المجدي البحث عن ارتدادات هذا الانغلاق العربي عن سنّة المنطقة، فهل التعددية القطبية في الشارع السني هي نتيجة هذا الانعزال؟ وهل ستتحول قضية المجتمع السني إلى قضية وجودية في المنطقة تزيدهم تعلقاً بوطنهم وتؤثر في شعاراتهم ومنهجهم؟ وأخيراً، هل المجتمع السني انضم فعلياً لموطن اللجوء؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.