أرفض دائماً الخلط بين الأزهر وإدارة المشيخة، فلا يمكن أن أعتبر الأزهر في إداراته أو شخص الإمام الأكبر أو أي من رجاله، لا سيما إن كان الأمر يتعلق بأعرق المؤسسات الدعوية في العالم الإسلامي، فضلاً عن تاريخ حافل للأزهر بالمواقف والثوابت القومية التي لا يختلف عليها أحد.
لكن، إذا كان الأمر يتعلق بعلاقة الأزهر بالفكر التنويري، فمن السهل أن أُشرك الأمر بالأساس مع فترة ما أُسميه "أوان التدهور الثقافي في المجتمع المصري" التي سبقت بقليلٍ، حركة 1952 (ثورة 23 يوليو/تموز)، والتي من السهل القول إنها ارتبطت بمتغيرات النظام الحاكم وظروف معينة عند المصريين، وبروز تيارات سياسية ودينية وتغير ثقافة السلطة من السلطة الملكية إلى الجمهورية، ومن نظام مدني إلى آخر عسكري، نشأ متكفلاً بالوجود الاستبدادي والقمع الفكري للآراء المختلفة وذوي النقاش والحوار.
هكذا من الممكن أن أوضح أنه بالمقدور، الحديث بثقةٍ أن الأزهر الشريف كان له دور تنويري بارز في المجال الديني، ليس فقط على هذا الصعيد، إنما أيضاً في الشأن الفكري والثقافي، والحرص على التجديد والتحديث العام وقبول الرأي المخالف، وعلى الأصح دراسته وإشعال المناقشات حوله.
ومن الممكن أن نرى منهم الإمام محمد عبده، فمن مجرد الحديث عنه نجد أنه من أبرز المجددين بالفقه الإسلامي في العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة، ومساهم بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود الذي أصابه عدة قرون، كما شارك في إيقاظ وعي الأمة نحو التحرر وبعث الوطنية، وإحياء الاجتهاد الفقهي لمواكبة التطورات السريعة في العلم ومسايرة حركة المجتمع وتطوره في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية، وتأثر به العديد من رواد النهضة مثل عبد الحميد بن باديس ومحمد رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي".
الإمام محمد عبده ليس الوحيد في هذا الاتجاه؛ بل إلى جواره طه حسين، فليس من الكثير أن يكون هو أبرز الداعين للتنوير في العالم العربي ورائد الحركة العربية الأدبية الحديثة… وغيره كثيرون، لا يكفي مقال لسردهم أو الحديث عنهم.
لكن شيئاً أراه بارزاً بين الاثنين: طه حسين ومحمد عبده، والعلاقة الحريصة على إحكام الفكر التنويري واتخاذه منهجاً وطريقاً لتبادل الثقافات والتجديد الديني المزمن دون خلق حالة من الخلاف مع المجتمع.
بالتأكيد، إن التدهور الثقافي والفكري في مصر بدا واضحاً خلال الآونة الأخيرة، التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، ينساق بها واتصل معها الأزهر الشريف، فالتجأ إلى تلك المتغيرات مع حالة ركود داخلية في أروقة الجامع الأزهر، فبدأ بالذهاب من باب القبول والمناقشة إلى المعاداة والقمع العقلي للآراء المخالفة والتنويرية داخل المجتمع المصري والمجتمع الإسلامي عامة.
وإن كانت تونس لنا مثالاً، نرى مدى الكارثة الثقافية التي حلَّت بنا وبالأزهريين، رأينا حالة من التفرد بين الطرفين، كل منهم يسعى إلى إقصاء الآخر من طاولة النقاش؛ المشيخة من طرف والإفتاء التونسي والمفكرين من طرف آخر، ولا يقلان تطرفاً موضوعياً عن ذاتهما.
مع فقداننا لوقت قليل لكُتاب تنويريين لهم اتزان وثقل حقيقي؛ فمن ثم لم نعهد قبول رأي واحد مخالف. وفي رأيي، ليس من الممكن الحجر إطلاقاً على الرأي الفكري أو الديني، مخالفة هذا أدت إلى منهج اتُّبع حديثاً من قِبل رجال الأزهر وإداراته الركيكية، ولا يصح أن يكون من الأساس، ومن ينكر حالة التزمت والعصبية اللافكرية داخل الأزهر فهل له أن يتنصل من دعاوى الأزهريين ومساندتهم الإجراءات التعسفية لحق كُتاب ومفكرين قديماً، منهم فرج فودة واليوم إسلام بحيري وفاطمة ناعوت وغيرهم الكثير، وأنا كنت أختلف معهم كثيراً.
نعم، أختلف كثيراً معهم، إلا أنني لم أكن أن أسعى إلى إقصاء أحد من الساحة الحوارية والفكرية والحجر على حقوقه في التعبير والنقد إلى أقصى الحدود.
وأخيراً -من أول السطر- إننا أسسنا لا شيء من اللاشيء، فجعلنا الإسلام والعقل والفكر، إلى جانب الحوار، حكراً على مؤسسة أزهرية، فتَوهّم من بها أن لا أحد سواهم له الحق في القول والرأي والبحث.. وجعلنا كهنة لهم الأمر والنهي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.