غالباً ما يثور التساؤل، لا بل الخلط أحياناً، بين المختصين في الشأن القانوني بخصوص مدى حجية المحررات الإلكترونية، ما يشمل العقود، الناشئة عن معاملات تجارة إلكترونية أو تجارة تقليدية في الإثبات في الواقع العملي.
ويثور التساؤل كذلك بخصوص القانون المطبق في تلك الحالات، إضافة إلى التساؤل بخصوص القوة القانونية لتلك المحررات التجارية الإلكترونية في الإثبات مقارنة مع المحررات التجارية الأصلية "المكتوبة".
وثمة تساؤل آخر يطرح نفسه في هذا السياق يتعلق بالمحكمة المختصة التي تقدم أمامها تلك المحررات الإلكترونية التجارية كوسيلة في الإثبات عند الاقتضاء.
وللإجابة عن التساؤلات المطروحة، ينبغي التمييز ابتداء بين المحررات الإلكترونية الخاصة بمعاملات مدنية، وتلك الخاصة بمعاملات تجارية، سواء تعلقت بمعاملات تجارة إلكترونية أو تقليدية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القانون الذي يحكم حجية المحررات الإلكترونية يختلف من دولة لأخرى؛ حيث نجد في غالبية الدول أن القانون الذي يحكم تلك الحجية هو قانون المعاملات الإلكترونية أو قانون التجارة الإلكترونية، ونجد في دول قليلة أخرى أن القانون الذي يحكم أو ينظم تلك الحجية هو قانون الإثبات، أو كما يطلق عليه في بعض الدول "قانون البينات في المنازعات المدنية والتجارية" الذي قد يتضمن أحكاماً تتناول حجية هذا النوع من المحررات.
وقامت بعض الدول كفرنسا بتناول هذه الحجية في قوانين خاصة بإثبات المحررات الإلكترونية والتواقيع الإلكترونية مثل قانون الإثبات الخاص بتكنولوجيا المعلومات والتوقيع الإلكتروني لعام 2000 الذي سمح باستخدام كل من المحررات الإلكترونية والتواقيع الإلكترونية كأدلة في الإثبات بذات الطريقة والأثر القانوني كأية محررات أو تواقيع مكتوبة.
وتطلّب إصدار القانون المذكور تعديل بعض المواد الواردة في القانون المدني الفرنسي آنذاك، خصوصاً المادة 1316، ما منح المحررات الإلكترونية ذات الأثر القانوني كأية محررات مكتوبة أخرى، شريطة أن يكون لها معنى واضح.
ومرد ذلك إلى أن قانون الإثبات "البينات" إنما يتناول مسائل تتعلق بوسائل الإثبات في المنازعات المدنية والتجارية التقليدية بشكل عام دون إشارة إلى المعاملات الإلكترونية بشكل خاص إلا في حالات استثنائية كما أسلفنا، ما يعني أن المشرّع القانوني في معظم الدول العربية والغربية، ترك أمر تنظيم مسائل حجية المحررات التجارية الإلكترونية لقانون المعاملات الإلكترونية أو قانون التجارة الإلكترونية، إضافة إلى قانون التوقيعات الإلكترونية.
ومن تلك القوانين سارية المفعول في الدول العربية مثلاً قانون المعاملات الإلكترونية الأردني لعام 2015، وقانون المعاملات الإلكترونية الفلسطيني لعام 2016، وقانون المعاملات الإلكترونية العماني لعام 2008.
وفي الدول الغربية قانون المعاملات الإلكترونية الموحد في الولايات المتحدة الأميركية لعام 1999، والأمر التوجيهي الصادر عن كل من البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي في العام 2000 الخاص بتنظيم مسائل التجارة الإلكترونية الذي اعتمدته غالبية الدول الأوروبية في تشريعاتها الداخلية، إضافة إلى الأمر التوجيهي الخاص بالتوقيعات الإلكترونية لعام 1999.
ومما يجدر ذكره هنا أنه في حالة رغبة أحد الأطراف المتنازعة في منازعة تجارية بإثبات حقه بواسطة محرر إلكتروني، سواء كانت تلك المنازعة ناشئة عن عقد إلكتروني أو عقد تقليدي، فإنه يتعين عليه اللجوء إلى المحكمة المختصة التي تكون في الغالب غير متخصصة وغير مستقلة عن المحاكم المدنية في الدول التي تأخذ بمبدأ وحدة الاختصاص القضائي، في حين أنه يتعين عليه اللجوء إلى المحكمة التجارية في الدول التي تأخذ بمبدأ استقلالية الاختصاص القضائي، ما يعني أنه يتعين على ذلك الطرف في تلك الدول إثبات حقه أمام المحكمة التجارية.
وخير مثال على تلك الدول من العالم الغربي فرنسا وألمانيا، وفي العالم العربي الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان؛ حيث تختص الدائرة التجارية التابعة للمحكمة الابتدائية بنظر كافة المنازعات الناشئة عن المعاملات التجارية، والتي كانت تعرف قبل صدور قانون السلطة القضائية العماني في العام 1999 باسم "المحكمة التجارية".
مما سبق يتضح لنا أهمية التمييز بين إثبات المحرر الإلكتروني التجاري والمحرر الإلكتروني المدني من حيث وسائل الإثبات المتبعة، والقانون الذي يحكم تلك العملية، والمحكمة المختصة.
وفيما يتعلق بقوة المحرر الإلكتروني الناشئ عن معاملة تجارية في الإثبات يمكن يقيناً القول إن معظم قوانين المعاملات الإلكترونية "التجارة الإلكترونية" تعطي المحرر الإلكتروني ذات القوة والأثر القانوني في الإثبات أمام المحاكم المختصة أسوة بالمحررات الأصلية "المكتوبة".
وأود الإِشارة في هذا السياق إلى بحث سابق نشر لي باللغة الإنكليزية في بريطانيا خلصت فيه إلى أنه حتى في ظل بعض الدول التي لا تعترف قوانينها لغاية الآن بقوة المحررات الإلكترونية في الإثبات، فإنه يمكن اعتبار الكتابة الإلكترونية كنوع جديد من الكتابة، ما ينبغي معه الاعتراف بقوة وأثر المحرر الإلكتروني التجاري القانونية في الإثبات في كل الحالات.
خلاصة القول: إن موضوع حجية المحررات الإلكترونية التجارية في الإثبات لا يعد موضوعاً إجرائياً كأصل كما يعتقد البعض واهماً؛ لأن القانون الذي يتناول تلك الحجية في معظم الدول العربية والغربية إنما هو قانون المعاملات الإلكترونية "التجارة الإلكترونية" وهو قانون موضوعي.
إضافة إلى أن المحكمة المختصة بنظر تلك الحجية ليست المحكمة المدنية كأصل، إنما هي المحكمة التجارية أو الدائرة التجارية، خصوصاً في الدول التي تأخذ بمبدأ استقلالية الاختصاص القضائي، كما أسلفنا.
وعليه، فإن أي قول مخالف مردود عليه ويتعين تصويبه وعدم الاعتماد عليه بخصوص ذلك الموضوع المهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر ش تحرير الموقع.