الغوطة الغنَّاء، جنةُ الأرض، ما رآها أحدٌ إلا أحسَّ بأنّه يرى مدينةً مسحورةً مِن مُدنِ "ألف ليلة"، قد تراءتْ له في غمرةِ حلم ممتعٍ، هذه بساتينُها التي تتصل حافلةً بالثمار، مليئةً بكلّ ما يفتن ويفيد.
هذه هي الغوطة إنْ يفتنك جمالها وبهاؤها، فقد فتنتْ من قبلك ملوكاً وقواداً وأدباء وعلماء، وأنطقتْ بالشعر ناساً ما كانوا من قبل شعراء، وأشاعتْ في الناس فرحة لا تنقضي، وما فقدت على الأيام فتنتها، ولا شاخت على طول المدى، بل ازدادت شباباً وفتوناً وحُسناً.
الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله.
مجردُ الكتابة عمّا يحدث في الغوطة يجعلني أدخلُ في حالةٍ من الاكتئاب الحاد، أجرّبُ أنْ أسدَّ فجوة تقصيري وخجلي أمام ضحاياها بكلماتٍ، فتنزلقُ منّي عابثةً، ولضعفي أفشلُ وأنا أحاولُ سحبَها. إلاّ أنّني كَمَن يخدعُ نفسَه بنفسِه. فلا كلماتَ تعبّر ولا عباراتَ تصِف.
وأنا وإنْ كانَ أهلُنا في الغوطة يستنشقونَ الموتَ أشكالاً وألواناً، إلاَّ أنّني وغيري نستنشقُ الخِزيَّ والعَجز كؤوساً، فنكادُ نختنقُ بها إلاّ قليلاً.
ما عادتْ مشاهدُ الموتِ والقتلِ تحرّكُ بأكثرِنا ساكناً، ولم يعُدْ يُجدي الشَّجب والتنديد، فقدْنا الأمل حتى باتَ أحدُنا يتابعُ الأخبار، وهو يتناولُ طعامَه فتمرّ أمامه لقطة لطفلٍ مقطّع الأشلاء أو لأبٍ يصرخُ أو لأمٍ تستنجد، فيكملُ طعامَه دونَ أن يشعرُ بشيء، بل باتَ أكثرُنا يحصي الجثثَ مع وسائلِ الأخبار ثمَّ يكملُ يومَه دونَ أن يدخلَ في دوّامةٍ من الحزن أو الألم، لم نفقدِ الأمل وحسبْ، بل فقدنا حتى الشّعور وما أشنعَ كذبَ البعض، عندما يقول: "لا نملكُ لكم سوى الدعاء"، وهو حتّى دعاءَهُ، ينتقيهِ على مقاسِ من هُم في دمشق دونَ غوطتها.
تبلّدت المشّاعر والأحاسيس، عُذرهم أنّ النصر الذي كنتُم تحلمونَ به لم يتحققْ بعد، وأنَّى لهُ ذلك، ومِن (بيننا) مَن يسمي نفسَه إنساناً، ولكنّه يتعاملُ بدمٍ بارد أمامَ كلّ ما يحدثُ بحقِّ أبناءِ شعبه من مجازر في الغوطة.
لا يتحركُ له ساكن وهو يشاهدُ مئات الجثث والأشلاء وليسَ مستعداً لكتابةِ عبارةِ شجبٍ واحدة تشفعُ له كسوريّ.
كيف لهذا النّصر أنْ يتحقق ومِن (بينهِم) مَن تقارنُ أصوات المنكوبين بأصواتِ مُتسابقي برنامجٍ غنائيّ، وتتوصّل إلى أنَّ أصواتَ صرخاتِ المُحاصرين من الأطفال والنّساء أجملُ بكثير!
وحدَها عيونُ الأطفال المُصوّبةُ لنا بأسى ستبقى تُدمينا، تذكرنا بعجزنا وخذلاننا لهُم، فكم من الألمِ والحزن سنداري بعدُ عن أعينِ الناس، وأوجاعُنا امتزجتْ بالإهانة ولم يعُدْ وقوفُنا خجلاً أمامهُم مُجدياً.
يُغضبنا أنَّ من تقاسمنا معهُم البلادَ يوماً، بسمائها وهوائِها، وحاراتها، ومقاعدِ الدراسة، يتمنَّون الموت لجيرانهم البعيدين عنهم بضعة كيلومترات.
فشعار: "الأسد أو نحرق البلد" لم يكُن شعاراً اعتباطياً لنظامٍ قائمٍ على القمعِ منذُ خمسينَ عاماً للآن، وما حصلَ خلال الثّماني سنوات من عُمر الثورة، يؤكدُ أنَّ تدميرَ البلد هو منهجيةُ الحاكم المجرم وديدنُه، الذي للآن، يجدُ له مُناصروه ومؤيّدوه حُججاً أكثر قُبحاً من همجيّته وإجرامِه.
لا يختلفُ اثنان في أنّ الانحيازَ للإنسان لا يحتاجُ لأدلةٍ أو وثائق، وأنَّ مساواةَ المجرمِ بالضحيةِ ضربٌ من الجنون، وتعطيلٌ للتفكير، وموتٌ للمشاعر والضمير.
إلاَّ أنّ البعض كما جرتِ العادة، يختارُ أن يكونَ حيادياً كما يسمّي نفسَه، لا يدّعي الانضمامَ إلى هذا الحِلف، ولا إلى ذاكَ، حجّتُه أنّ كلا الطرفيْن قد أخطأ، وأنّ خطأَ الطّرفِ المعارضِ أكبرُ من خطأ النّظام، على فداحةِ إجرامِ الأخير.
هؤلاء يرتدونَ لَبُوسَ الإنسانيّة مُغلّفاً بالنّفاق، ولكن على طريقتهِم الخاصة بكسبِ واستقطابِ الجميع، والظهورِ أمامَ المَلأ على أنّهم الألطَف والأرقُّ عاطفةً، والأكثرُ إنسانيّةً وحباً للأطفال، هم المُسالمُونَ أبداً اللّطيفونَ دائماً، والغَيورونَ على سماءِ الوطن بنجمتيّْهِ ذواتِ اللّونِ الأخضر.
يا غوطتنا الحزينة، يا أيّتها الأم المفجوعة، واليتيمة والثَّكلى، مَن يعتذرُ لموتاكِ عن عجزِنا؟! ومَن يُواري سوءاتِنا أمامَ عظمةِ صمودك؟! ومَن يمسحُ عن جبيننا عارَنا المتراكم؟!
أخبريهم أنّ مشاعرَنا أُصيبَت بنزلةِ برد حادّة، وأنّنا نملكُ قلوباً اصطناعيّة نخافُ عليها إِنْ هي تأثرت، أنْ تتوقفَ فجأة، وأنّ أصواتَنا ترتجفُ خيبة وكلّما حاولنا النطق تلعثَمْنا، وأنّنا أغلقْنا كلّ الأبواب مِن خلفنا منذُ المجزرة الأولى، واخترْنا الصّمت؛ لأنّنا لا نملكُ بديلاً، فنحنُ صدَّقنا ما قرأناهُ يوماً:
"أنَّ للشُّعوب كلمتها الأخيرة، هكذا تقولُ المقابر الجماعية".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.