في الثقافة والقيود على حرية التعبير “2”

إن الأفكار النبيلة حول حرية التعبير ببساطة لا تحسب في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، الآن يجب أن نتعامل وفقاً للقول الشهير بأن "أفضل علاج للكلام السيئ هو المزيد من الكلام".

عربي بوست
تم النشر: 2018/03/01 الساعة 00:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/03/01 الساعة 00:11 بتوقيت غرينتش

تكمن الإجابة في مجموعة من التطورات المختلفة، أعتقد أن أهم ما يمكن الإشارة إليه، هو صعود سياسات الهوية، وبعبارة أخرى، فإن "الهوية" كانت دائماً جزءاً أصيلاً من الخطاب السياسي، ومن الصعب تصّور السياسة دون الإشارة إليها، ومن الواضح أن الهويات العرقية والطبقية شكّلتا نقاشاً سياسياً عميقاً، لكن ما هي عليه من أشكال السياسة اليوم، على العكس، ساعدت على انهيار السياسة الأيديولوجية القديمة.

على مدى العقود الثلاثة الماضية تغيّر الطابع السياسي، بنهاية الحرب الباردة، وظهور الجماعات المسلحة، وتصدع اليسار بصورة شبه كاملة، فالفصل الأيديولوجي الذي اتسمّت به السياسة لنحو مائتي سنة، تم محوه.

فنحن نعيش الصراع الأيديولوجي في عصر دون أيديولوجية، ونتيجة لهذا، أصبح التضامن معروفاً بشكل كبير ليس من الناحية السياسية -كعمل جماعي سعياً وراء المثل السياسية- ولكن من حيث الثقافة والقومية.

ما تعبر عنه سياسة الهوية هو انهيار العولمة، "النظام العالمي" والقبول بدلاً عنها بفكرة أن كل مجموعة لها ثقافتها وقيمها وسبل كونها، وأن العولمة هي فرض وجهة نظر غريبة بل وعنصرية، ومن هذا المنظور، يمكن القول في كثير من الأحيان أن حرية التعبير، والقدرة على التوسع في التجربة العالمية، والتشكيك في ذلك الذي ينظر إليه على أنه حاسم بشكل لا جدال فيه، يشكل تهديداً، فيمكن للرقابة أن توفر وسيلة لتعزيز الحواجز المكسورة، واستبعاد الآراء والقيم غير المرغوب فيها وغير المقبولة والمهددة.

في الماضي، كانت السياسة التقدمية متجذرة في فكرة جعل كل إنسان قادراً على نشر المعنى الأخلاقي لعيش حياة حقيقية كفرد، بشكل مستقل أخلاقياً، وكان الاعتقاد أن ذلك ساعد في ترسيخ فكرة الاستقلالية في الدولة الحديثة، وقد اعتمدت سياسة الهوية لغة الأصالة، وقد أدى هذا بدوره إلى أن على المرء أن يحترم مختلف المعتقدات والثقافات كطرق أصيلة للتعايش، إنه مطلب يتحول إلى مفاهيم متعلقة بالاحترام والاستقلالية.

الاحترام يتطلب منا أن نعامل كل إنسان على قدم المساواة ككيان أخلاقي مستقل.

فلكل فرد القدرة على التعبير عن الآراء السياسية والمعنوية، أيضاً كل فرد مسؤول عن آرائه وأفعاله، وهو قادر على أن يحكم عليهم.

بحرية التعبير عن الاستقلال الذاتي الأخلاقي الفردي، وقدرة الناس على الانخراط في نقاش مفتوح بلا حدود بشأن معتقداتهم وأفعالهم، وتحمل العواقب.

إن الطلب بتجاوز احترام الشخص، إلى احترام معتقداته وآرائه، يقوض الاستقلال الذاتي الفردي، من خلال تقييد حق الناس في انتقاد معتقدات الآخرين والإصرار على أن الأفراد الذين يملكون تلك المعتقدات أقل عرضة للوقوف في وجه النقد أو السخرية أو الإساءة.

وبعيداً عن احترامها، فإن سياسات الهوية تتعامل مع الناس بشكل أقل ككائنات مستقلة عن الضحايا الذين يحتاجون إلى حماية خاصة.

إن جذور التحول المعاصر في المواقف تجاه حرية التعبير تكمن بعد ذلك في التحول للطرق التي ننظر بها إلى أنفسنا كبشر، وعلاقاتنا مع بعضنا البعض، ورؤيتنا لماهية العيش في مجتمع ما. فالدفاع عن حرية التعبير، ومعارضة الرقابة، هو في صميم الدفاع عن رؤية أساسية لكيف يجب أن يكون الإنسان.

الرقابة خطرة؛ لأنها في معظم الحالات تولد الجهل والتضليل وتمنع المجتمعات من اتخاذ قرارات مستنيرة، من المهم أن يعبر الناس عن أنفسهم، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا كانت هناك حرية تعبير دون قيود أو اشتراطات رقابية.

ما أريد قوله: إن علينا إعادة صياغة قضية حرية التعبير كضرورة عالمية، يبدو لي أساساً أنه قد أُسيء فهم كل من طبيعة التنوع والعلاقة بين التعددية وحرية التعبير.

إن فرض قيود أخلاقية وقانونية على النقد هو شكل من أشكال الاشتراطات، اتخذ وجهة النظر المقابلة، ولأننا نعيش في مجتمعات تعددية نحتاج إلى أقصى حد ممكن من حرية التعبير.

من الحتمي والمهم أن تتعرض السلطة والطبقات والمعتقدات والشخصيات العامة للنقد، لا مفر من ذلك؛ لأنه حيث توجد معتقدات عميقة، فالنقد والمواجهة ضروريان، وهكذا ينبغي حلها علناً بدلاً من قمعها باسم "التسامح".

هذا ضروري -في رأيي- لأن أي نوع من التقدم الاجتماعي يعني التعرض بالنقد لبعض الحساسيات العميقة، هو في كثير من الأحيان استجابة مَن هم في السلطة لتحدي سلطتهم.

إن القبول بأن أشياء معينة لا يمكن قولها، هو قبول أن أشكالاً معينة من السلطة لا يمكن الطعن فيها.

فالبشر، كما قال سلمان رشدي: "عليهم تشكيل مستقبلهم من خلال الجدل والتحدي وقول إن بعض الأمور غير صالحة للاستعمال، لا عن طريق الركوع".

ويكمن جوهر هذه الحجّة في الإصرار على أن أي شكل من أشكال السياسة التقدمية يتطلب منا التغلب على عوائق الهوية بدلاً من تبنيها.

وهذا يتطلب منا العمل من أجل رؤية أكثر شمولية للمجتمع، حرية التعبير فقط تجعل هذا ممكناً. فالتعبير -الحر والكامل- هو شريان الحياة لأي تحّول تدريجي في المجتمع.

وأرى أنه لأمر سيّئ ألا يُفصح الناس عما في عقولهم خوفاً من المحاسبة أو الانتقام الجسدي، وأعتقد أن فنون السخرية ينبغي أن توجه صعوداً ضد الأقوياء، وأصحاب السلطة والنفوذ، وليس عليها أبداً النزول وعدم التحدي، فحرية التعبير لا تعني أنني موافق بشكل كامل عن كل ما يتم طرحه، لكنها تعني الاعتقاد بالمبدأ القائل: "أنا لا أتفق مع ما تقوله، ولكنني سأدافع حتى النهاية، عن حقك في التعبير".

فالحجة هي أن الناس الذين لا يعترفون بحق حرية التعبير، لا يحق لهم حرية التعبير عن أنفسهم، أو كما يقول كارل بوبر: "إن المجتمعات الحرة لها الحق في حماية نفسها بقمع أعداء الحرية".

لكن في تقديري، فإن أفضل طرق دعم التسامح هي دعم الحقوق المتساوية للجميع، وعدم تعريف فئات جديدة من الناس بالاضطهاد.

إن الأفكار النبيلة حول حرية التعبير ببساطة لا تحسب في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، الآن يجب أن نتعامل وفقاً للقول الشهير بأن "أفضل علاج للكلام السيئ هو المزيد من الكلام".

ليس علينا أن نقع بعد ذلك في أفخاخ مناقشة لا عقلانية من جهة، أو أن نفقد سبل إدراك الحاجة الملحّة لحرية التعبير.

من جهة أخرى، لكن يمكننا أن نقرر كيف نرغب في التعامل مع الرقابة الرقمية، وقضايا التحرش، وجمع البيانات، وصنع القرار الخوارزمي.

ولا شك أن المتابعة لكيفية إدارة الطريقة التي يعبر بها الناس عن أنفسهم عبر الإنترنت لن تكون لها علاقة بسحق المعارضة السياسية.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد