أحبّ الأندلسَ جداً.. أحبُها للدرجةِ التي أغارُ فيها على شطرِ بيتٍ ذُكرت فيه صراحةً أو كنايةً لم تمرر عليهِ عيني، أحبُها للدرجةِ التي اتخدتُ لأجلِها قراراً بأن أسلُكَ جميعَ المسالِك التي تهيّئني لأكون كاتباً عن التراثِ الأندلسي، أحبُ جميعَ ما كُتب عنها وجُل ما غزلت أحبارُ الشعراءِ فيها، وما نظمهُ العشاقُ إليها، أحبّها ويفصلني عنها مضيقٌ وبحرٌ وبلادٌ وقارة!
أحب الداخِل وهشام والحكم والناصِر والأحمر، أحب الممالِكَ والقُرى والمُدن والأزقة التي يختلِطُ اسمها بها، أحب قُرطُبةَ؛ لأنها عاصِمتُها الكُبرى بمسجِدها وحاضِرها وماضيها، وعبقِ مكتبتها، أحبّ غرناطةَ لما فيها من نقوشٍ كانت آخر ما نُقشَ بيدِ المسلمين في الأندلُس، أحب صعاليك البيازينِ وبلاطَ الحمراءِ وخان الحُرة، أحب الربضةَ التي ألقى من خلالها أبو عبدالله على أندلُسهِ الفقيدِ نظرةَ الوداع، وبين قرطبةَ وغرناطةَ ممالِكُ ومعاركُ وأرواحُ وشهداءُ ووطن، هناك إشبيلية وثمة ملقا وسرقسطة ومُرسية وطليطلة وألمرية وقادس ولُبة وبلنسية، أحب تلك البُلدانِ جميعها وإن لم تطأ قدمي أخضر هُناكَ ولا يابساً.
أعيشُ حينَ القراءةِ عنها حالةً من الزخمِ والفخرِ والزهو، ذاكَ الذي يحملني بينَ يديهِ؛ لأرتطمَ بسحابِ الليلِ.. فأسقُط وتسقُط الحيلةُ بيدي ولا أندلُسَ ظلَّت حاضرةً ولا حتى قدسٌ أو فلسطين، فأنعاها بصدقٍ بائنٍ بائسٍ ينفلقُ من بين وجنتي، فهذا أنا الآن أدمعُ في تمام الثالثةِ فجراً لأن حيلتي لا تنفعني، وما بيدي غيرُ حيلةٍ فقط، وما بيدي غيرُها، لا تغنيني أبداً مقاطِعُ الصُورِ ولا شحذُ الهممِ ولا استنفارُ القومِ للخروجِ إلى الأندلُس، أعلمُ أنني بعيد؛ بعيدٌ كل البعد عن مضيق طارق أو الساحلِ الجنوبي، أو حتى رُفات الهواءِ الذي يموجُ على زبدِ البحرِ المُطلّ على جنوبِ الأندلُس.
مرت سنون.. سنون لا حصر لها، لا أقوى على عدّها، أعرفُ التاريخَ وأحفظُه، لكنهُ لن يكونَ صادِقاً كتلكِ النقوشِ المرسومةِ على حائطِ المسجدِ وجدرانِ القصر، وإن توالت عليهما العقودُ ومرت القرون، لن تنسى الأرضُ ولن تغفلَ السماءُ وإن تكلم الناسُ بغيرِ ذلك، تبقى الأندلسُ عندي أندلساً، مهما سموها ومهما أرادوا بها، هي لا تزالُ حاضرةً في ذهني ومُسطرةً في بالي وإن لم تُقرُّ عيني بها، ولن أدرِك يوماً ميعادَ رجوعها أنا أحفظُ التوقيتَ وأعرِفهُ، ولا أحتاجُ إلى تذكيرٍ مسبقٍ بأنه قد أتمت الأندلسُ ما يزيدُ عن ستة وعشرين عاماً وخمسةِ قرون، مُذ غابت شمسُ المُسلمين عَنها واختفى أذانُ المغربُ ليعقُبهُ ليلٌ حالِكٌ طويل!
ينتابُني السؤال الآن: هل سأعيش! هل سأعيشُ لليومِ الذي أهنأُ فيه بربضٍ من العيشِ أسفلَ شجرةٍ في باحةِ المسجدِ الكبيرِ بقرطبة؟ هل سأتمكنُ من قطفِ عنقودِ عنبٍ من شجرةٍ في فناءِ قلعة شُريش بإشبيلية؟ لن يُمهلني الزمنُ ولا أظنُ أن يدي قد تطالُ ما قد تطالُه عيني في حضرةِ الأندلس.
بُعيدَ زمنٍ قريبٍ من زمننا سينظُر أحدُ حفَدتي إلى مكتوبٍ أرسلتهُ ولم يصل، أو إلى كتابٍ أفنيتُ عُمري في خطّهِ حتى يليقَ بما يرادُ لي أن أكتُبَ فيهِ "الأندَلس"، سيكتُب من هُناكَ إلى جدِه المقبورِ بأحدِ قبورِ الأرضِ: أي جدي.. قد سرتُ على ما أحببتَ أن تسير عليه، وذللتُ أرضي طوعاً لأن أسكُن هُنا؛ فاتخذ من مَرقدك سريراً هانئاً فقد متعتُ سمعي بالصلاةِ خلف الإمامِ في باحة المسجدِ الأكبرِ بقرطُبة، ولسوفَ أمضي يا جدي لأحدِثكَ وإن لم تكن تراني ولا تسمعني عن مروجِ الأندلُسِ وحدائقها التي عُمرت بما استردهُ المسلِمون من عُمرانٍ وجناتٍ وأنهارٍ وخُضر.
أنا أنتظرُ ابني هذا أن يقرأ هذه الرسالةَ حتى وإن لن تشهدها عيني ولن تسمعها أذني، يكفيني من التاريخِ أن أنصفني ونصرَ بني ديني واستعادوا بعد بَعِيدٍ حضارتَهم.. لا تُهمِني الطريقةُ ولا تعنيني المصاعِب، انتظرُ تلكَ الرسالة وإن قُطِّع جسدي وحارَ ولدي عند أي بلدٍ يُقرئني السلامَ ويقرأ رسالتهُ عليّ، فكلُ ما دونَ الأندلسِ هيِّن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.