المغربي تحمله أُمه بالدارجة، وتضعه بالدارجة، وتستقبله "القابلة" بالدارجة، وترضعه الأم بالدارجة، ويُقبّله أبوه بالدارجة، ويحبو ويمشي بالدارجة، ويضحك ويبكي بالدارجة، وتضمه العائلة في حضنها بالدارجة، ويتحدث معه الطبيب والصيدلي والبقال والخضار بالدارجة، ثم يتعلم التعبير عن شعوره وآلامه وفرحه بالدارجة، ويلعب مع أصدقائه بالدارجة، كما يُحب والديه وحيِّه ومدينته ووطنه وملِكه بالدارجة.
تصبح الدارجة جزءاً لا يتجزأ من هويته وشخصيته وانتمائه لعائلته ولوطنه ولعَلمِه، فيصبح الطفل هيكلاً واحداً مع الدارجة.
إلى حد الساعة كل شيء يتطور بشكل طبيعي ثم ينفجر بركان صدمة الطفل وتتصدع طمأنينته بمجرد ما يضع قدميه بالمدرسة ويتلقى صاعقتين:
– الصاعقة الأولى: حين يسمع من أستاذه يقول "الدارجة ليست أصلاً لغة، وأن العربية هي لغته". فترى الطفل محتاراً لا يفهم بأي لغة يحدثه الأستاذ؛ لأن اللغة العربية لا يعرفها في حياته اليومية، كما أن لا أحد في بيته يتحدث هذه اللغة الأجنبية عليه. فيكتشف الطفل أن التعليم يقوم عن عمد بإنكار الدارجة، ويشعر بالغربة والحزن وبإنكار وجوده داخل القسم؛ لأن التعليم يتهجم على جزء لا يتجزأ من هويته، وكأن الأستاذ يقول لأحد التلاميذ: "أنت لست بذكر أنت أنثى"، ويتجاهل هويته الجنسية الحقيقية.
– الصاعقة الثانية: حينما يسمع الطفل معلمه يقول له: "نحن عرب" ويزرع فيه هذه الهوية الجديدة عليه، ويتساءل الطفل في نفسه "عن أي شيء يتحدث أستاذي، أنا مغربي أمازيغي، جْبْلي، دُكّالي، مْهْيّاوي، صحراوي… ولماذا يقول التعليم إنني عربي؟ هل أنا مغربي في البيت والشارع وعربي في القسم؟".
فيتخبط الطفل المغربي في صعوبات تعليمية وصراعات مؤلمة، ويتزعزع في هويته وتاريخه (الست سنوات الأولى التي قضاها وسط عائلته) وداخل المدرسة كأنه داخل بلد أجنبي لا يُعترف بلغته الدارجة، ويُلصق له هوية العربي الفصيح، ثم نتساءل: لماذا التلاميذ يكرهون المدرسة؟ ولماذا مستوى التعليم يتراجع جيلاً بعد جيل؟
ليس هناك بلد عربي يكتب ويدرس اللغة التي يتكلمها شعبه في حياته اليومية مثل ما في الدول الغربية؛ حيث لا تباعد بين اللهجات المحكية واللغات الوطنية الرسمية، نحن شعب نتكلم بلغة، وندرس ونتراسل بلغة أخرى.
فترى المواطن يقصد الإدارة ويتحدث مع الموظف بالدارجة، ولكن بالنسبة للوثائق الرسمية يتوجب عليه أن يترجم الحوار إلى العربية، ويعبئ الوثائق كذلك بالعربية.
هذا التناقض هو الذي حوّل التلميذ المغربي إلى مواطن مزدوج الشخصية والهوية، في بعض الأحيان يجب عليه أن يكون مغربياً أمازيغياً أو بركانياً أو ريفياً أو طَنْجاوياً يستعمل اللهجة المعبرة عن هويته وفي بعض الأحيان يغيّر هويته المغربية بالهوية العربية.
لو قام التعليم بالمصالحة مع الدارجة، ووظّفها في مخاطبة وتعليم الطفل بالمدرسة، فإنه بذلك لن يصعقه بمشقة لغة غريبة عليه، بل سينطلق التعليم من نفس الأدوات اللغوية التي تلقاها الطفل في بيته وحيّه، وتبقى هويته مستقرة، ولا تتحول "المطيشة" إلى طماطم و"الليمون" إلى برتقال و"الموس" إلى سكين و"الخْدّْيَة" إلى وسادة واللون "القهوي" إلى بني و"البيت" إلى غرفة و"الكوزينة" إلى مطبخ و"الناموسية" إلى سرير…. إلخ.
بل سيستعمل الطفل في المدرسة كل ما تعلمه في بيته، ولا يجب عليه أن يجدد كل ما تعلمه كأنه في هجرة إلى بلد أجنبي.
وُلوج الطفل إلى المدرسة أشبه بالمغربي الذي يهاجر إلى أحد بلاد المهجر ويضطر لتعلم لغته، فكلاهما عليه أن يتعلم من جديد أسماء كل ما يعرفه بالدارجة.
إن كل ما تعلمه الطفل في منزله (6 سنوات) هو رأس مال تستفيد منه المدرسة لاستكمال مهمتها، ولكن مع الأسف تعليمنا يرجع بالطفل 6 سنوات إلى الوراء! ثم نتساءل: لماذا معدلات التعليم وسرعة التعلم بطيئة جداً!
إن ثقافة إنكار الدارجة من طرف التعليم تُدمر ست سنوات من تعليم الطفل المنزلي وتُفكك شخصيته وتُضعف هويته، وتجعل منه ومن المجتمع المغربي ضحايا لاِزدواجية الشخصية، بل هذه الاِزدواجية تخلق نزاعات للمغربي مع ذاته وانقسامات مع مجتمعه ووطنه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.