من ثقافة التلبيس.. وَهْم الحقيقة المطلقة

الحقيقة ليست واحدة، فهناك الحقيقة التي مكّنتنا من تجربتها وهناك التي لا يمكن أن نجرّبها، يعني أن هناك بالتحديد ما يسمّى بالحقيقة التجريبية والحقيقة العقلية، فما الفرق بينهما؟

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/27 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/27 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش

تأثير مفهوم النسبية الذي قلب نظرتنا على العالم لم يعُد يقتصر على ميدان الفيزياء، بل امتدّ إلى سائر الميادين العلمية والحياة عموماً.

ويجدر بالكثير أن يفهموا أن موضوع "نسبية الحقيقة" المثير للاهتمام ليس وليد البارحة، بل يعود إلى عصر أفلاطون وأرسطو.. إذن ما هي الحقيقة؟ وما الفرق بين ما يطلق عليه "الحقيقة المطلقة" وبين "الحقيقة النسبية"؟

في عهد أرسطو وأفلاطون، كانت الحقيقة تعبّر عن حكم قضيّة معيّنة، والحكم هو عندما تقول مثلاً إن هذا الشيء أسود، وإن هذا الإنسان شرير.. اعتبر الفلاسفة أنه كلّما ازداد التطابق بين المعرفة وموضوعها كانت الحقيقة مطلقة، وقد تبنّى الفلاسفة المسلمون هذا الرأي، ونجد منهم الحكيم ابن سينا الذي قال عن الحقيقة إنها تمثّل "التطابق بين ما في الأذهان وبين ما في الأعيان (الحواس)".

جاء نيتشه، وساهم في توسيع مفهوم الحقيقة، ونيتشه معروف للجميع بآرائه وأفكاره التي لا تخلو من التشاؤمية، فقال عن الحقيقة إنها عبارة عن "أوهام وأخطاء مفيدة تخدم تيّار الحياة"، كما أنها من الزاوية المعرفية هي مجرد منظور يعكس موقعَ وزاويةَ بل وإرادةَ صاحبِه، وبما أن نيتشه اعتبر أن الحياة عبارة عن صراع بين طرفَين: طرف يمثّل رؤية وأخلاق السادة، وطرف يمثّل رؤية وأخلاق المستضعفين، أصبحت الحقيقة مرتبطة بلعبة القوى ومنظورات الصراع، ومن هنا جاء الموقف البراغماتي (النفعي) الذي يقول إن الحقيقة هي حقيقة؛ لأنها مفيدة ونافعة.

وبطبيعة الحال هناك مَن رفض موقف أرسطو وابن سينا ونيتشه معاً، وهو اتجاه الفيلسوف "هيدجر" الذي ربط بين الحرية والحقيقة، فالحقيقة عنده ليست في عدم التناقض المنطقي، وإنما الحقيقة هي في ترك الأشياء على ذاتها؛ ترك الأشياء تكشف عن نفسها من دون إكراه وإلزام.

الكثير يعتبر عندما نقول إن الحقيقة هي نسبية وتختلف من شخص إلى آخر، أن هذا الادعاء هو سفسطة وكلام فارغ، فلا يمكن أن يختلف البعض على أنه مثلاً الجزء أصغر من الكل، أو يعارض مجموع زوايا مثلث يساوي قائمتين بحجّة نسبية الحقيقة.

ما يجب أن نتّفق عليه هو أن الحقيقة تمثّل طريقة تفسيرنا للواقع، والواقع نستقرئه بالحواس، وبما أن حواسنا قاصرة، فاستقراؤنا للواقع سيكون تلقائياً ناقصاً، وهذا سيؤدي باختلاف الأشخاص إلى اختلاف التفسيرات، لكن متى يكون تفسيرنا للواقع أقرب إلى الصّحة؟ ذلك عندما يطابق التفسيرُ الواقعَ.

وقد يسأل القارئ قائلاً: إذا كنت أنت متأكداً أنه ليس هناك حقيقة مطلقة تماماً بينما توجد فقط الحقيقة النسبية، أليس طرحك هذا هو حقيقة مطلقة بحد ذاته؟!

وأقول: إن الحقيقة ليست واحدة، فهناك الحقيقة التي مكّنتنا من تجربتها وهناك التي لا يمكن أن نجرّبها، يعني أن هناك بالتحديد ما يسمّى بالحقيقة التجريبية والحقيقة العقلية، فما الفرق بينهما؟

الحقيقة التجريبية موضوعها هو الواقع النسبي المتغير، وبما أن معيار الصدق فيها تطابق الفكر مع ذاته ومع الواقع، كأن تقول إن كل البشر فانون؛ لأن حواسنا ترى بالفعل أن البشر يموتون ولم نسمع بأن هناك بشراً خالدون لا يموتون، لكن هل فهمنا ما هي طبيعة الموت؟ فحتى وإن اتفقنا على شكل الحقيقة، لكننا لا نتفق على معناها ولا نعرف فعلياً ما هو "الموت"، فهي حقيقة قابلة للتجربة، لكنها ليست كاملة؛ لأننا لا نعرفها تماماً، نعرف جزءاً منها وهو أقرب إلى الواقع، وهو أن كل إنسان فانٍ ولا نعلم هل هو يرحل إلى الفناء؟ أم يرحل إلى الحساب بحسب ما يقوله الدين؟

أما الحقيقة العقلية فهي غير قابلة للتجربة، كالمعتقد الديني مثلاً، وهي أفكار لا يهمّها التناقض مع الواقع الخارجي، بل التناقض عندها هو في عدم اتساق مقدّماتها مع نتائجها، أي أنها تعتمد على المنطق الصوري لا على المنطق التجريبي، وبما أن المنطق الصوري هو منطق البديهيات، فلكل شخص بديهياته وثوابته التي يبني عليها تفكيره، وهذا ما يجعلها نسبية.. فحين يدافع الإنسان عن عقيدة من عقائده المذهبية، يظن أنه إنما يريد بذلك وجه الله أو حب الحقيقة، وما يدري أنه بهذا يخدع نفسه، إنه في الواقع قد أخذ عقيدته من بيئته التي نشأ فيها، وهو لو كان قد نشأ في بيئة أخرى لوجدناه يؤمن بعقائد تلك البيئة من غير تردّد ثم يظن أنه يسعى وراء الحق والحقيقة.

ولهذا أغلب أتباع الأديان لا يبحثون عن الباطل داخل دياناتهم، وإنما دائماً ما تتوجه أنظارهم إلى معتقدات الآخر.

وهذا هو داء الأديان المتنازعة دائماً، وأنا لا ألوم أحداً على هذا، لكن ألوم مَن يحاول الدفاع عن إيمانه بفكرة أو معتقد بتوجيه النظر إلى الآخر عوض مناقشته، متوهّماً أن ذلك قد ينجيه من نقد خرّافاته وأفكاره، فالإسلام يثبت بالإسلام، وليس بالإلحاد أو المسيحية، والفيزياء تثبت بالفيزياء وهكذا، يعني أن الشيء يثبت بذاته وليس بغيره.

يمكن تشبيه اليوم الحقيقة بالهرم ذي الأوجه المتعددة، فالمفكر "المقيّد اجتماعياً" يركز نظره عادة في وجه واحد من الحقيقة ويهمل الأوجه الأخرى.

إنه مربوط في مكانه بسلاسل قوية من التقاليد والمفاهيم المألوفة، وهو لذلك لا يستطيع التحرك يميناً أو يساراً إلا ضمن حد محدود.

أما المتحرر فهو القادر على الحركة قليلاً أو كثيراً، يعني أن الإنسان يزداد اقترابه من الحقيقة الوسطى ويزداد وسطية واعتدالاً عندما يطّلع على جميع وجهات النظر من زاوية مختلفة.

فما هو المطلق في حياتنا إذن؟! أليس 1+1= 2 هي قضية مطلقة؟ وأقول: إنه حتى هذه القضية هي نسبية نفسها، فالحاسوب لا يرى أن 1+1 = 2؛ لأننا نحن البشر اتّفقنا على مدلول "1" و"2″، أما الحاسوب فيرى أن 1+1=10 عنده؛ لأنه مبرمج على أن يعمل على النظام الثنائي، بينما عقولنا نحن برمجت لتعمل على النظام العشري.

ومع ذلك لا يزال هناك مَن يرى أن الحق المطلق عنده، ويلوم الناس على طريقة تفكيرهم، وهذا من دون شك من أتباع المنطق القديم الذي كان يجري وراء الحقيقة الكاملة التي لا يشوبها نقض رغم اقتناعه بأن البشر ليسوا مثاليين.. فإن مثله الذي يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا تقبل التغيير والنقد كمثل مَن يظن أنه بالسيف والرمح وغيرهما من أسلحة الحروب القديمة سيفتح العالم رغم علمه بأنه يعيش في عصر أصبح مكان هذه الأسلحة في المتاحف التي يزورها الناس ويضحكون عليها لبساطتها.

لقد دلّت التجارب الكثيرة على أن الجدل المنطقي الذي يستخدمه رجال الدين عبارة عن لغو وعبث لا نفع يرجى منه؛ لأن هدف ذلك الجدل ليس موضوعياً، وليس المرغوب منه الوصول إلى الحقيقة؛ لأنه من النادر أن تجد إنساناً اقتنع برأي خصمه أحياناً حتى ولو كانت الأدلة واضحة، بل الاقتناع لا يحدث إلا بعوامل نفسية واجتماعية.

ولم يخطئ عالم الاجتماع "علي الوردي" عندما شبّه من يصرّون على استخدام نفس المنطق القديم في التفكير بأولئك الأبطال، من طراز عنترة العبسي، الذين يهجمون بالسيف على جندي حديث يحمل بيده رشاشاً سريع الطلقات، فمهما تفننوا في إبداء ضروب البسالة والشجاعة ومهما تفنّنوا في سلق العدو بحدّ لسانهم وأشبعوه شتماً وهجاءً فإن الرشاش سيحصدهم في النهاية في ظرف ثوانٍ معدودة؛ حيث لا تنفعهم لا بسالة ولا حماسة ولا فصاحة لسان!

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد