الغريبة

كان صوتاً جميلاً وناعماً، كنت أحرك رأسي في جميع الجهات؛ لأعرف مصدر الصوت، وقلت: "من أنت؟"

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/25 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/25 الساعة 02:08 بتوقيت غرينتش

(1)
منزلي الأبيض يلوح لي من بعيد، عشرون عاماً منذ خرجت منه، زمن طويل جداً، كلما اقتربت أشعر بأني طفلة صغيرة اشتاقت إلى حضن والدتها بعد يوم طويل في المدرسة،تملكتني مشاعر متداخلة، قلبي يخفق بشدة.

نزلت من العربة، سرت عبر حديقتي أنظر حولي وأردِّد: كانت جميلة تبدو ذابلة، وكأنها تقول لي: اشتقنا إليك.

دخلت المنزل، عبرت السلالم، تحسست الباب الكبير بيدي، شعرت بالإعياء وكأن الذكريات تسري عبر يدي.. التقطت أنفاسي، وفتحت الباب، رأيت منزلي كما كان منذ عشرين عاماً، نابضاً بالحياة.. إنني أعيش ذكرياتي القديمة.

رائحة جميلة قادمة من داخل المنزل، توجد حركة في المنزل، سألت نفسي: هل يوجد أحد في المنزل؟ تكونت خيالات أمامي، لا أعرف ما تكون، وقفت أمام المكتبة، صُدمت بأنها مكتبتي.

كنت أقرأ منها عندما كنت فتاة صغيرة، مثل تلك الرائحة التي أشمها عندما أحمل كتاباً، رائحة عتيقة رائحة، كتب توارثها الأجيال، كانت لجدي ثم أبي ثم أنا.

لم أستطع تجاهل الذكريات القديمة وفوج المشاعر الفائض في قلبي، اتكأت على كتبي، سمعت صوتاً مألوفاً قادماً من المطبخ يناديني، "ورد هيا لا تؤخرينا"، تبعت الصوت، دخلت المطبخ، صُعقت..

كان أمي وأبي جالسَين على طاولة الطعام وأمامهما مغلف أحمر اللون وكأنهما يتحدثان إليَّ: "ورد إنه لك فلتفتحيه أنتِ" .

رأيتني عندما كنت شابة والحماسة تأخذني، أتقدم لأفتح المغلف بفرحة خجولة، فتحته وشهقت.. وقال أمي أبي إنه كتابي الأول "ريحان، لقد نُشر".

تهللت أساريرهما فرحَين وأنا أشاهد بدهشة، أحاول أن أفهم لماذا أرى هذا؟! وأنا هنا في سجني تلوح لي تلك الرؤيا كل ليلة.

(2)
المطر في الخارج يهطل بغزارة، كنت أتابعه وأنا جالسة في ركن منزوٍ بمكان عام، لاحت تلك الذكرى عندما كنت أعانق ابني بقوة وأنا أبكي، واختفى من بين يدي بسرعة وكأنه لم يكن لي.

شعور بالحُرقة والألم ينغص على قلبي، رأيته وهو يدخل، يتجه إليَّ، لا أنسى مطلقاً تلك العينين اللامعتين، حفرتهما في صدري، عرفته فوراً..

اقترب مني، عانقته بقوة، بلَّلتُ قميصه بدموعي، كان جافياً، لم أنتظر منه أن يبادلني، شعرت بأنه سوف يؤخذ من بين يدي..

دُخت قليلاً، أمسكني وأجلسني، لم أنبس ببنت شفة، وهو كذلك، إلى أن قال: "لقد تركتِني".. لم أردَّ عليه إلا بدموعي التي لم تتوقف، كانت تتساقط على يدي المتشابكتين.

رفعت رأسي، عيناي تقولان العكس: "لا، لم تبارح خيالي"، وقلت: "خطَّ الشيب على رأسي، تجاعيد وجهي غطت ملامحي، أثر الدمع خطَّ على وجنتيَّ، خطوط متوازية علّمت على جبيني.. لقد كبرت"..

وأمسكت يديه بقوة: "كل يوم كنت أمسك رأسي؛ مخافة أن ينفجر من تلك السوداوية في عقلي، إحساس الظلم، إحساسي بفقدك وبأني خسرت قطعة من روحي كان سيئاً، سيئا لدرجة أنني كنت أذوق طعم المرارة في فمي، بين كل هذا الظلام كيف كنت أصمد؟ تلك النقطة البيضاء، نعم، كانت بعيدة، لكنها كانت مصدر قوتي ومتنفسي، أملي ومسكنة لغصة قلبي، كانت أنت".

أفلتَ يديه ووضعتُ يداي على قلبي، زاد انهمار المطر في الخارج؛ رعد وبرق.. أُغمضت عيناي لا شعورياً، وفجأة فتحتهما، كان الظلام يحيط بي من كل الجهات إلا شعاع ضوء بسيط أمامي، كانت يداي معلَّقتين في سلاسل حديدية، وكانت الأرض تحتي لزجة جداً، إلا أن رائحة المكان جميلة.

"خيالات من الماضي ومن المستقبل.. الحقيقة لقد سئمت، يبدو أنك لم تتعلمي الأحجية".

كان صوتاً جميلاً وناعماً، كنت أحرك رأسي في جميع الجهات؛ لأعرف مصدر الصوت، وقلت: "من أنت؟".. ضحكة رقيقة وصوت يقول: "ألم تعرفيني؟! أنا أنتِ".

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد