للمرة الخامسة خرجت أمي إلى الشرفة لتهددني بأن هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي تطلب منّي فيها الصعود إلى أعلى، ومن بين كل المرات السّابقات هذه حقا هي المرة الأخيرة لأنني إن لم أصعد فستنزل هي إليّ.
تعتقد أمّي أنه لا يجدر بي أن أقضي وقتا طويلا في الشارع، لأنني سأصاب بلا شك بعدوى القمل من أبناء الجيران، على الرغم من أنني في إحدى محاولاتي لإقناعها بعدم صحة ذلك فلّيت رؤوسهم ولم أجد شيئا، ما عدا عمرو الذي لم أستطع صراحة أن أتأكد من خلوه منه؛ لأن شعره ليس قابلا للتفريق، كتلة واحدة غريبة التركيب، ولهذا السبب تحديدا فأنا أميل إلى وجود مستعمرات على فروته، وددت لو أنني تمكنت من رؤيتها، أتساءل إن كان يشعر بها وهي تتجول في الداخل.
كما في كل يوم ذهبت إلى ناصية الشارع أنتظر أختي لأعود معها، فهي تشكل عامل إلهاء مهم، كما أنني أتلذذ بالاستماع إليها وهي تشارك العالم بحكمتها، خصوصا مع نهاية الأسبوع.
فتيات العائلة اللواتي تزوجن كانت تبدو عليهن سمات الفرح والسعادة، وحتى في الأفراح التي تقام في حيّنا يبدو الجميع سعداء، وأسماء أيضا تكون سعيدة، ولكنها لا تحب أن تستمع إلى النساء وهنّ يتحدثن حول زواجها
أسماء -هذا هو اسمها- ليست فتاة طبيعية، أو على الأقل هذا ما أعتقده أنا، فأنا أرى الفتيات الطبيعيات كل يوم في الحي وفي الطريق إلى المدرسة ولكن أسماء ليست فتاةً طبيعية. في بعض الأحيان أحس بأنها كائن غير محدد المعالم، هي لا تطيق أن تمضي الوقت مع فتيات مثلها، كما أنها لا تكف عن إرهاب الصبية، لا تلبس ولا تتصرف كالفتيات الأخريات ولكنها تجيد الطهي وتعشق التنظيف، ولديها مشكلة مع قضية الزواج.
النّساء عندما يزُرن أمي أو حتى عندما تلتقي بإحداهن صدفة لا بدّ أن يختمن الحديث بالدعوة لأختي بالزواج العاجل، ولي بأن أصبح رجلا وأن تتمكن أمي من رؤية أبناء أبنائي -لست أدري إن كان من الممكن أن تعيش أمي لترى أبناء أبنائي-، وكل فتيات العائلة اللواتي تزوجن كانت تبدو عليهن سمات الفرح والسعادة، وحتى في الأفراح التي تقام في حيّنا يبدو الجميع سعداء، وأسماء أيضا تكون سعيدة، ولكنها لا تحب أن تستمع إلى النساء وهنّ يتحدثن حول زواجها.. لعلها لا تريد الزواج، لم يحدث أن عرفت امرأة غير متزوجة، لذلك لا أعلم إن كان هذا أمرا طبيعيا.
حملت حقيبتها واحتفظت هي بكتبها، كتب أسماء لها رائحة كريهة، لأنها مليئة بالصور والحبر الذي تطبع به سامّ جدا.. هكذا قالت لي، ولكنها تقضي معها وقتا طويلا ولا بد أنها تستنشق هذه الرائحة كثيرا، ربما لهذا السبب هي غريبة هكذا.. لا بدّ أن تلك السموم قد وصلت إلى دماغها.
– كيفَ كانت دروسُكَ اليوم؟
– طارق نسي واجبه وعوقب أمام الصفّ!
– دروسُك، لم أسألك عن صديقك طارق.
– لا جديد، كالعادة، لا شيء جديد.
– لماذا تذهب إلى المدرسة إذاً؟!
– لماذا تسألينني أنا، أنتِ من تأخذينني إليها كل صباح!
نظرت إلي وهي ترفع حاجبها الأيسر، ثم التفتت إلى الطريق أمامها وتابعت المسير. حاولت مرارا أن أفعل ذلك ولم أستطع، كيف يمكنها أن ترفع حاجبا دون الآخر هكذا؟!
كالعادة في الطريق إلى البيت لا بد لنا من أن نمر بدكان العم قديم، نعم اسمه قديم، يقولون بأن والده كان يريدُ فتاةً بعد أن رُزِقَ بخمسة صبية، ولكنه رزق بصبي كالباقين فسمّاه "قديم"، لعله كان سيسمي ابنته "جديدة". أمام الدكان عدد من أبناء الحي يتسمرون أمامه كل مساء حتى تغيب الشمس، ويبدؤون بالغناء والقهقهة ويقومون بحركات غريبة، احترت كثيرا ماذا أسميهم، أقصد ليس من الممكن أن أسميهم رجالا لأن عم قديم رجل وهم لا يشبهونه في شيء أبدا، وليسوا أطفالا لأن المعلمة تقول بأننا أطفال، وهم لا يشبهوننا أيضا، أتمنى ألا أصبح مثلهم يوما، من بعيد يبدون كمجموعة من الحمقى..
أختي أسماء لا تطيقهم، لأنهم يصفقون عندما نمر بجانبهم ويصرخون بعبارات غريبة! أحدهم نادها "يا سمراء" في إحدى المرات، وهذا دليل على غباء واضح، لأن اسمها أسماء، ثم إن أختي شاحبة كسمكة مغلفة بطحين، أتساءل "ما العشاء الليلة؟".
هذه التدوينة منشورة على موقع مدونات الجزيرة
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات عربي بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.