مشهد يتكرر بقسوة

لم تعد الزوجة الشابة التي لم تتجاوز العشرين عاماً تملك ما يكفي من القوة لتقف على قدمَيها خارج العيادة، تهالكت على آخر درجة من السلم الحجري وهي تبكي بصمت، بَدت لي وأنا أمرُّ مع زوجتي بالقرب منها، كما لو أنها زهرة دعكتها يدٌ عابثة، أما طفلها الصغير الذي لم يبلغ عامه الثالث فيقف أمامها وهو لا يعرف ماذا يدور حوله.

عربي بوست
تم النشر: 2018/02/22 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/02/22 الساعة 02:21 بتوقيت غرينتش

الخبر الذي أطلعها عليه الطبيب قبل لحظات داخل عيادته بعد أن عاين الأشعة وقرأ أوراق الفحص ودقّقها جيداً جعلها تنفصل تماماً عن العالم، ولم تعُد تسمع شيئاً مما يدور حولها، كما لو أن المكان تلقَّى ضربة نووية أخرست كل الأصوات.

لم تعد الزوجة الشابة التي لم تتجاوز العشرين عاماً تملك ما يكفي من القوة لتقف على قدمَيها خارج العيادة، تهالكت على آخر درجة من السلم الحجري وهي تبكي بصمت، بَدت لي وأنا أمرُّ مع زوجتي بالقرب منها، كما لو أنها زهرة دعكتها يدٌ عابثة، أما طفلها الصغير الذي لم يبلغ عامه الثالث فيقف أمامها وهو لا يعرف ماذا يدور حوله.

حاول زوجها أن يخفّف عنها بأن يمسد على رأسها بكفه، التفتُّ ناحية زوجتي وهي تهمس لي: "نفس المشهد يتكرر..".

طيلة العامَين الماضيين تعوّدت على رؤية مثل هذا الموقف وأنا أرافق زوجتي رحلة علاجها للشفاء من مرض سرطان الثدي، كل أسبوع أجد نفسي مصعوقاً بالوجع بين ممرات المستشفى وردهاته ومختبراته، ما أنْ أشاهد أعداد النساء المصابات تتزايد بشكل غير معقول، والأكثر قسوة عندما أشاهد الأطفال الصغار المصابين بهذا المرض، فمن الصعب على الإنسان أن يتحمل رؤية براءتهم وهي تنطفئ في وجوههم الجميلة، وقد مسحها الشحوب بلونه الأصفر المائل إلى السواد وأجسادهم النحيلة قد نهشها المرض.

أشعر بالعجز كلما أعود إلى البيت بعد ساعات طويلة أقضيها في المستشفى أتصفح المقالات والنصوص الأدبية في المواقع الإلكترونية للصحف العربية، وأنا أنتظر أن تكمل زوجتي أخذ جرعتها، تاركاً خلفي طوابير تنتظر دورها؛ لكي تتمدد على الأسرَّة المتوافرة التي لا تتناسب مع أعداد المصابين حتى تنتهي من أخذ جرعة الكيماوي لفترة تصل إلى ثلاث ساعات متواصلة.

وما أن يتهيأ أي واحد منهم للنهوض ومغادرة السرير سيكون من السهولة على من يراه أن يشعر بما يعانيه المريض من إعياء شديد أصاب جسده، بما يجعله غير قادر على السير خطوة واحدة من غير أن يتكئ على كتف مَن يرافقه حتى يصلا إلى بوابة المستشفى؛ ليصعدا إلى داخل سيارة الأجرة.

من هنا، وانطلاقاً من المسؤولية الأخلاقية أدعو أصحاب الضمائر الحيّة من الأغنياء في هذا البلد (وهم كثيرون بلا شكّ) أن يبادروا إلى التبرع لإقامة مستشفيات خيرية تقدم العلاج المجاني لمرض السرطان في العراق، ويمكن الاستفادة من تجربة الإخوة المصريين بهذا الموضوع؛ حيث نجحوا في إقامة العديد من المستشفيات التي تقدم العلاج لمرض السرطان في الكثير من المحافظات المصرية عن طريق جمع التبرعات والأعمال الخيرية التي أقدم عليها الأثرياء ونجوم الرياضة والفن والمجتمع، هذا إضافة إلى المواطنين.

في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان يوجد مستشفى (نانا كلي) لمعالجة مرض السرطان، كنا نراجعه طيلة فترة العلاج وما زلنا.

هذا المشروع الإنساني الكبير أصبح واقعاً ملموساً بما يقدمه من خدمات كبيرة لمئات المرضى نتيجة مبادرة خيرية نبيلة أقدم عليها قبل عدة أعوام شخص ميسور الحال ينتمي إلى عائلة (نانا كلي)؛ حيث تبرع بقصر كبير جداً مع حديقة واسعة مرفقة بالمبنى، وبجهده الذاتي تحوّل إلى مستشفى مجهّز بالأسِرَّة والأجهزة الحديثة.

أما بخصوص العلاج والأدوية فهي تقدم من قِبَل إدارته بأسعار رمزية جداً تكاد تكون مجاناً، وحسب المعلومات المتوافرة لديَّ فإن منظمات دولية تكفلت بتقديم كل ما يحتاجه من أدوية وأجهزة، إضافة إلى الدعم المقدَّم من حكومة إقليم كردستان والمواطنين كذلك.

وقد لاحظت خلال مراجعتي الأسبوعية لمدة عامين استمرار عمليات التطوير والتوسيع التي يشهدها المبنى؛ حيث تمت إضافة ثلاث قاعات جديدة عن طريق البناء الجاهز، كما فُتح مبنى جديد ملحق بمبنى المستشفى القديم، أكبر منه بكثير، توافرت فيه كل المستلزمات التي يحتاجها مرضى السرطان ليكون قادراً على استيعاب أكبر عدد منهم.

كما تم تهيئة سبل الراحة والهدوء والنظافة التامة في كافة مرافقه، والأهم من كل ذلك هو حسن التعامل الذي يلقاه المرضى من قِبَل الأطباء والممرضين وجميع طاقم المستشفى بشكل لم نلمسه في أي مكان آخر.

كم نتمنى أن نجد مثل هذا المشروع في كل مدينة ومحافظة عراقية.

إن أعداد المصابين بهذا المرض تزداد بشكل كبير، بينما لا توجد على الأرض مؤسسات صحية تتابع علاجهم وتقدم لهم الدعم من أدوية وعلاجات، فيضطر العديد منهم إلى شرائها بأثمان مرتفعة لا يقوى على تحمّلها عامة الناس.

بإمكان الأثرياء أن يُسهموا في بناء مستشفيات تستوعب هذه الأعداد التي تزداد يومياً نتيجة ما تعرض له العراق من عمليات حربية خلال الأعوام الماضية؛ حيث استعملت فيها كافة الأسلحة المحرمة منها وغير المحرمة، وما كان العراقيون في نظر قوات التحالف الدولي، وفي مقدمتهم الأميركان، إلاّ حقل تجارب لتلك الأسلحة، ولا أحد يعرف ما تحمله من آثار مدمّرة على البيئة والصحة، وشيئاً فشيئاً بدأت تظهر نتائجها وخطورتها بشكل ملموس في هذه الأعداد المتزايدة من المصابين بالأمراض السرطانية.

فهل سنشهد وقفة مشرّفة من رجال الأعمال والتجار والأثرياء تُسهم في دعم وإقامة مشاريع صحية تعبيراً عن تفاعلهم الإنساني مع أبناء بلدهم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد